رأي

عقبة التطرُّف الديني الإسلامي والإسرائيلي

د. النور حمد

تحدثت في مقالي السابق الذي كنت قد كتبته قبل يومين من قدوم الولايات المتحدة الأمريكية على قصف المنشآت النووية الإيرانية، أن التطرف الديني في كل من إسرائيل وإيران هو ما يهدد تحقيق سلامٍ مستدامٍ في الشرق الأوسط. لكن هناك عنصرًا مُهمَّا لابد من الإشارة إليه هنا، حتى لا يُظن أن هذا الذي قلته يعني أن خطر التطرف الديني الإيراني والإسرائيلي متساويان. فهما لديَّ ليسا متساويين، لأن وجود حكومة إسرائيلية يؤثر على سياساتها المتطرفون الدينيون كحكومة بنيامين نتنياهو، لا يعني أن الساحة السياسية الإسرائيلية يسيطر عليها اليمين الديني الإسرائيلي المتطرف، بصورةٍ مطلقة. فليس كل الإسرائيليين يتطلعون إلى تحقُّق النبوءات التوراتية بقيام دولة إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل. فإسرائيل دولةٌ يتعايش فيها طيف واسع من المفاهيم. فهي دولة ديمقراطيةٌ يدور الصراع بين قواها السياسية بحريةٍ كاملةٍ، ولا يوجد فيها من هو فوق الدستور أو القانون. وعلى سبيل المثال، فقد حدث أن أُجْبِرَ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إيهود أولمرت على الاستقالة، نتيجةً لاتهامه بالفساد المتمثل في الرشوة وخيانة الأمانة، وأُدين في عام 2014 بهذه التهم، وحُكم عليه بالسجن لست سنوات، وبالغرامة أيضًا. إلا أنه نال عفوا وإفراجًا مشروطًا في عام 2017.

أما النظام الإيراني، فهو نظامٌ استبداديٌّ قمعيٌّ صَمَدِيُّ البنية، لا فرصة فيه لإبداء الآراء المخالفة لآراء الطبقة الدينية الحاكمة. ولا مجال فيه للصراع الديمقراطي الحر بين القوى السياسية. لذلك، فإن نزعة إسرائيل التوسعية أقل خطرًا على العالم العربي من نزعة إيران التوسعية. ولا ينبغي أن يصرفنا كوننا نتشارك معها المظلة الإسلامية عن حقيقة خطرها الكبير. فالوصول إلى صيغةٍ ثابتةٍ للتعايش السلمي مع دولة إسرائيل، عبر التفاوض المسنود بالقوة التي لا تتحرش ولا تنزلق في وحل خطاب الكراهية، أسهل من الوصول إلى ذلك مع إيران التي تقع تحت سلطةٍ مطلقةٍ واحدةٍ، هي سلطة المرشد الأعلى التي يظن أتباعه أنه يستمدها من السماء. فالمجال السياسي الإسرائيلي تسود فيه آلية التدافع بين القوى المختلفة التي تعمل في داخله. وهذا يجعل منه مجالاً قادرًا على تصحيح وجهته وتغليب طريق التعايش السلمي ولجم النزعة الدينية التوسعية العنفية المتطرفة.

النزعات الدينية التوسعية

لقد برهنت إيران في العقود الأخيرة الماضية على أنها قوة توسعية عنفية تسعى لابتلاع العالم السني، أو على الأقل، اخضاعه لسلطانها وجعله ظلاً لها. وهي في هذا تستخدم القضية الفلسطينية، لا من منطلقٍ إنسانيٍّ حقوقيٍّ متعلق بمظالم الشعب الفلسطيني، وإنما من منطلق استخدام المظلة الإسلامية التي تجمعها مع القوى السنية، استخدامًا مؤقتا. فإيران تستغل العاطفة الدينية للمسلمين السنة، المتعلقة برمزية مدينة القدس، جاعلةً من خدمة القضية الفلسطينية مضمارًا نضاليًا مشتركًا يجمعها على صعيدٍ واحد مع عموم أهل السنة. وهذا نهجٌ يقوم على مكرٍ وخداعٍ تكتيكيٍّ، يجري فيه استخدام المسلمين السنة استخدامًا مؤقتًا لإنجاز جزءٍ من المشوار، قبل أن يصبحوا هم أنفسهم ضحيةً للأطماع التوسعية الإيرانية. والحقيقة التي لا مراء فيها، أن كراهية الشيعة الإمامية لأهل السنة والجماعة لا تقل عن كراهيتهم لإسرائيل، هذا، إن لم تزد عليها.

تتحرك إيران تحت ضباب العاطفة الدينية تجاه البقاع المقدسة لتتوسع في الأراضي العربية بصورةٍ مشابهة تمامًا لما يسعى له اليمين الديني الإسرائيلي التوسعي، الذي الذي ما فتئ يدعو إلى التهام الأراضي العربية تباعًا منذ تأسيس دولة إسرائيل في نهايات أربعينات القرن الماضي. التعريف الصحيح لأزمة العالم العربي هي أنه يعيش تحت تهديد النزعات الدينية التوسعية المسيطرة على المتطرفين الدينيين؛ من يهود وشيعة وسنة. وفي تقديري أن مؤشر التطور التاريخي يشير إلى أن شعوب المنطقة من مسلمين بشقيهم الشيعي والسني ومن يهود، سوف يخرجون شيئَا فشيئًا من ربقة التديُّن المسيَّس ونزعاته العدوانية.

نزعة الإسلام السياسي السني التوسعية

لا يؤمن الإسلام السياسي السني بالدولة القطرية. فهو يرى في نفسه ثورةً دينية إسلامية عابرة للأقطار. وهو بهذا المعنى تيار توسُّعيٍّ، مثله مثل كلٍّ من اليمين الديني الإسرائيلي المتطرف، ومثل النظام الإيراني الديني المتطرف. فمثلما تسلك إيران نهج تصدير الثورة، ونشر المذهب الشيعي، وخلق أذرع لها في مختلف البلدان العربية والإسلامية، كذلك يفعل تيار الإسلام السياسي السني، ولكن بطرق مغايرة. لقد تغلغت أيران في العراق بصورةٍ كبيرةٍ عقب انهيار نظام صدام حسين. كما تمددت عسكريًّا في سوريا وزرعت حزب الله في لبنان الذي أنشأ لنفسه هناك دولةً موازيةً للدولة الأم. كما جنَّدت إيران منظمة حماس السنية لممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل واستقطبت جماعة الحوثي التي أخذت تهدد أمن البحر الأحمر وأمن المملكة العربية السعودية. فالذي يجمع بين تيار الإسلام السياسي في نسختيه الشيعية والسنية تشاركهما نزعة تصدير الثورة وعدم الإيمان بحدود الدولة القطرية. فالإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني تياران عابران للأقطار. وقد جعلت هذه السمة من كليهما مهددًا رئيسًا للاستقرار وللتعايش السلمي بين دول الإقليم. فهما واليمين الديني الإسرائيلي، لدى النظرة العميقة، عملة واحدة ذات وجهين.

تقول أدبيات الإخوان المسلمين أن بلاد المسلم هي عقيدته. فهم لا يؤمنون بالدولة القطرية. وتشاركهم في هذا المفهوم قوى السلفية الجهادية التي تذهب لتحارب في مختلف الأقطار. وقد حارب كثيرون من هؤلاء في مختلف الأقطار كأفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وسوريا. ويقف وراء هؤلاء المتطرفون حلفٌ عريضٌ ترعاه بعض الدول الإسلامية وبعض التنظيمات الشعبية. وتربط بين كل هؤلاء جميعًا صلاتٌ معقدة. وقد تصرف النظام السوداني وفقًا لهذا المفهوم منذ أن قام الشيخ حسن الترابي بالانقلاب على النظام الديمقراطي في السودان في عام 1989. فقد شرع منذ البداية في تصدير الثورة عبر إحداث القلاقل في دول الجوار المباشر وفي دول الخليج النفطية. وعمومًا، انتهت أول تجربة للإخوان المسلمين في الحكم في العالم الإسلامي، التي جرت في السودان، بعد مسيرةٍ دمويةٍ مضطربةٍ وفشلٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ واجتماعيٍّ مدويٍّ، بإشعالهم حربًا أهليةً شاملةً، أدَّت إلى أكبر كارثةٍ إنسانيةٍ يشهدها العالم في القرن الواحد والعشرين.

الحرب التي فضحت كل أطرافها

تمثل هذه الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران نقطة تحوِّلٍ كبيرةٍ في مآلات السياسة في الشرق الأوسط ومحيطه. فقد فضحت الحرب الأخيرة كل الأطراف التي شاركت فيها. فهي قد فضحت ادعاء إسرائيل أنها قادرة على حماية مواطنيها بصورةٍ مطلقة. فالصواريخ فرط الصوتية نسفت هذه الثقة وأحدثت دمارًا في المدن الإسرائيلية، لم يحدث أن تعرضت لمثله من قبل. ولعل كثيرين منا قد شاهدوا فيديو محاصرة بعض المواطنين الإسرائيليين الغاضبين للمتطرف اليهودي، إيتمار بن غفير، بسبب الحث على حرب إيران من غير أن يكون لدى الحكومة ما تدرأ به سقوط الصواريخ عليهم. كما فضحت هذه الحرب إيران التي تعرَّض أبرز قادتها وعلمائها إلى الاغتيال في وقت وجيز. كما انفضحت إيران أكثر بظهور عجزها عن حماية أجوائها، التي سيطر عليها الطيران الإسرائيلي بصورة مطلقة، فطفق يسرح ويمرح فيها لاثني عشرة يومًا، دون رادع. أيضًا فضحت هذه الحرب التراجع العام للقدرات الأمريكية وعرَّى انحلال عزيمتها بسبب الانقسام وسط القوى السياسية في الداخل، وكذلك تنامي نزعة اعتراض الجمهور الأمريكي على توظيف السلاح الأمريكي والمال الأمريكي والثقل السياسي الأمريكي لصالح إسرائيل. خلاصة القول، إن هذه الحرب قد خلقت واقعًا سياسيًا جديدًا سمته الرئيسة أن كل هذه القوى الفاعلة قد أدركت حدود قدرتها على فرض إرادتها. كما ستكون من سمات هذا الواقع الجديد أيضًا زيادة الوعي السياسي وسط الجمهور العربي والمسلم والجمهور الإسرائيلي. فلسوف تدرك جماهير الإقليم بكل انتماءاتها الدينية وغير الدينية أنها ليست عدوة لبعضها، وإنما الجمود العقدي والتطرف هو عدوها جميعها. فالتعايش بين الشعوب واختلاطها وامتزاجها قدرٌ إلهيٌّ مقدورٌ، لا فكاك منه. ولربما أمكن القول، إن فجرا لروحانيةٍ إنسانيةٍ عابرة للعقائد الجامدة، قد بدأ يسفر. وقد لمح خيوط نوره المبصرون من أولى الألباب، الذين أنبتتهم مختلف السياقات الدينية والفكرية. وسوف لن تلبث شمس السلام المستدام أن تشرق قريبا على جميع أهل الأرض. “أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!