
مدن ملتهبة بأوجاع الحروب ترتعش من طوفان اللهب المستعر في فجواتها، نيل يشهق من ظمأ للسلام كأن رائحة البارود بصقت الجفاف على شاطئيه، هنا القيامة ترتدي أقسى أقنعتها لتغدو فاتنة ومتوحشة.
أمسيات المدينة ترتل آيات الخوف على أكواخ الفقراء، الأكواخ يغازلها عشاقها المتعبون من رهق السهر، مسمرين على كهوفهم الدافئة ومعابدهم السرية، وهم ينقشون الصمت على صخرة الوقت التي تقف عملاقة، ينقشع ستارها ببطء مزعج .
حوار ليليٌّ بين اليأس والأمل يُدار على عقلِ سيدة طاعنة في الصبر -كلما أشعل الحاقدون شرار الحرب بألسنتهم المجلجلة بلهيب الفتنة- زرعت حقول الأمل على “جبراكة” قلبها الخصبة، وأسقته من وابل الصبر الذي أرسل الرب غمائمه سلاما وطمأنينة في سهول نبضها الخافق بالإيمان.
الخرطوم .. المدينة التي تحتكر السودان، تحمله في إبطها معرفة وصحة وتنمية لتوزع لشقيقاتها من المدن ما تيسر من حصتها الفائضة من خيرات سلبتها منهن بتغول سلطتها عليهن، هاهي الآن تقذف بأطفالها وعجائزها وشبابها وجميلاتها وأحزانها إلى حانة البؤس.
السودان بلد العجائب كلما حاولت أن تخوض المعركة بين الحق والباطل لتغسل دنس من عاثوا فيها فسادًا مذ أن غادرها الكولونيل، وتتقيؤهم فاسدًا فاسدًا مسقطة إياهم في سلال السفالة ومزابل التاريخ، بيد أن شعبها الغريب على أمره يختار الجلوس مع الفاسدين في ذات الـ(خازوق) ويدافع عنهم بشراسة في معركة بين الماضي المدنس والمستقبل المشرق، بين سودان جديد يليق بأحلامنا، وسودان قديم داس علينا بأقدامه البالية.
البلاد الغارقة في غيبوبتها أسقطت أخلاق سكانها في سلال الجشع، فأكل الناس لحم بعضهم، ليزداد الفقير فقرًا والغنيُّ غنىً، والطاهر طهرًا والغافل غفلة والفاسد فسادًا، ليت مولانا الفيتوري عليه رحمة الله كان حاضرًا ليعيش أحداث نبوته الحدسية في أوجها، ليتهم أدركوا ما قال:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استياء
والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء
تاج السلطان الغاشم تفاحة
تتأرجح أعلى سارية الساحة
تاج الصوفي يضيء على سجادة قش
صدقني يا ياقوت العرش
أن الموتى ليسوا هم هاتيك الموتى
والراحة ليست هاتيك الراحة.
عامان ونيف والتشرد يمضغنا علكة على أنيابه، نحن معشر السمر الذين وسمت وجوهنا عزة احتكرتها هذه الأرض التي وسمتنا باللون والكرامة وكل قيمة أدرك الإنسان في وعيه إيجابيتها.
عامان ونيف والقلوب تتمزق وتتفرق والمبادئ تتأرجح في ضمائرنا بين حق واضح يجب اتباعه محبة في العدل والخير، وبين طريق الهلاك والتآمر الذي تقص أعشابه خناجر النفاق وتزين للجهلاء مسلكه أبواق مأجورة تشدها مصالح شخصية لارتكاب تلك الحماقات، ليصرخون (بل بس).
الآن ساعة كتابة هذه الأسطر وأنا تحتويني جوبا بدفئها الاستوائي الرهيب، بقلب مرتبك خائف من غدٍ مجهول، مرتعب من قسوة الأقدار لما آل إليه حال الوطن، ساعة الحنين تدق، وأنا أنتظر آذان المستقبل الواعد، وأجراس الغد المشرق.
أي رياح ستهب نحو غابات الحزن المكتظة في أوحال القلب لتعلن بشرى سعيدة تغرد لها عصافير الأمل على أغصان الضلوع، رياح تحمل معها أخبارًا ربيعية العطر تغسل رائحة الموت في جسد بلادي.
لتعود الأرض السمراء في كل بقعة من أطرافها مرتدية فستانها الحر، فستانها الجديد، ليتمزق فستانها القديم، بابتسامتها المشرقة المنعكسة من ثغور الأطفال في الأعياد الموسمية، لنرى عاشقًا يسرق قبلة من وردته المخضبة بالعطر، وبائعات القهوة والمدمس القنوعات يقضين نفقات أطفالهن وينمن مطمئنات البال، غير مباليات بكوابيس العسس المزعجة.
لتمر الجميلات بكامل أناقتهن بفساتينهن الزاهية، دون أن يزرع المكبوتون تحديقة في صدورهن الشاهقة أو أفخاذهن المستفزة، وهن يُعرفن المدينة بأسلوب جديد، وينبتن السعادة في جدران المباني التي يعبرن بجوارها ويخلفن العطر على الهواء الطلق يشق النوافذ، وكذلك يفعلن بقلوب العشاق.
لتعود الجداريات أكثر عمقًا ودهشة في شوارع المدن، وتكتظ المقاهي بالسهرات الشعرية، وجلسات النجيلة بحلقات القراءة، ومحطات الانتظار بالمكتبات الثقافية، وليزرع الكمساري ابتسامة في وجوه راكبي الحافلات العامة عربونًا من الحب يكسب به قلوبهم قبل أن يكسب أجرته الفانية.
لتنبثق من قلعات المعارف شعلات العلم ولينافس الطلاب أنفسهم على شرف ليستحقوا غدًا أفضل ويفخروا به لأنه من صنع أنفسهم وتخطيط ألبابهم، وابتكار مخيلاتهم، ومجهود معاناتهم واجتهادهم حتى ينهضوا بالبلاد إلى صفوف تستحق أن تكون فيها منذ أن اقتلعت سيادتها التي وهمًا كنا نظنها سيادة.
لتنصهر الألوان والأشكال والهُويات والأعراق في جسد واحد يحمل اسم السودان، وطن جديد في كل ما يحويه، يهابه كل من طمع في ثرواته وفكر في ايذائه والنَّيلَ منه، وطن يعشق بإخلاص إذْ يُذكر اسمه تقشعر الأبدان فخرًا واعتزازًا به، وطن يجري إدمانه في أوردة كل من يحمل جنسيته وجواز سفره.