
ثورة ديسمبر المجيدة لم تكن مجرد موجة غضب شعبي ضد نظام مستبد، بل كانت واحدة من أنبل الثورات في تاريخ السودان الحديث، وأكثرها وعيًا وسلمية. فقد خرج السودانيون من مختلف الأعراق والأقاليم، متحدين في مواجهة نظام شمولي جثم على صدورهم لثلاثة عقود، وأسقطوه بإصرار لا يلين، ومن دون عنف، في ملحمة أعادت الأمل في التغيير، وأعادت السودان إلى الواجهة كأمة حية قادرة على صناعة مستقبلها.
لكن النجاح في إسقاط رأس النظام، رغم رمزيته الكبيرة، لم يُفضِ إلى تحقيق حلم إقامة وطن حر ينعم بالسلام والعدالة. فمنذ اليوم الأول، تربصت قوى الإسلام السياسي بالثورة، مستخدمة أدواتها كافة، وعلى رأسها المنظومة الأمنية، في مواجهة إرادة الشعب.
وكانت أولى محاولات الإجهاز على الثورة هي جريمة فضّ اعتصام القيادة العامة، التي نُفذت بوحشية مفرطة لا تصدر عن إنسان سويّ، لتُعلن بعدها اللجنة الأمنية للرئيس المخلوع – ممثلة في الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي آنذاك – إيقاف الحوار مع قوى الثورة والدعوة إلى انتخابات خلال تسعة أشهر. وكان ذلك جزءًا من مخطط الدولة الإسلاموية العميقة للعودة إلى السلطة عبر انتخابات تفتقر لأي ضمانات حقيقية للنزاهة، تمامًا كما كان الحال في عهد البشير.
غير أن الشارع الثائر وقف سدًا منيعًا أمام هذا المخطط، وخرج بالملايين في الثلاثين من يونيو 2019، في ملحمة زلزلت أركان الدولة العميقة، وأجبرت المجلس العسكري على التراجع عن قراراته، ليُعلن البرهان لاحقًا العودة إلى الحوار مع القوى المدنية.
لكن، وبدلًا من استثمار هذا الزخم الثوري الكبير لتحقيق أهداف الثورة، وقعت قوى الحرية والتغيير في خطأ استراتيجي فادح، حين وافقت على العودة للتفاوض مع اللجنة الأمنية للنظام البائد حول ترتيبات إدارة المرحلة الانتقالية. والأسوأ من ذلك أنها منحت هذه اللجنة – بقيادة البرهان – تفويضًا بتفكيك منظومة التمكين داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، وهي ذات المؤسسات التي شكّلت حاضنة التمكين ورأس حربته لثلاثة عقود!
يبدو أن قوى الحرية والتغيير، إما بدافع حسن النية أو تحت ضغط التوازنات، تعاملت مع المؤسسة العسكرية وكأنها شريك يمكن الوثوق به في مشروع التحول الديمقراطي. لكنها أغفلت أن هذه المؤسسة، منذ انقلاب 1989، خضعت لعملية “أسلمة” ممنهجة، جرى فيها إقصاء الكوادر المهنية المستقلة، وتوجيه العقيدة العسكرية لخدمة مشروع الإسلام السياسي. فصار الجيش أداة أيديولوجية، معادٍ بطبيعته لأي مشروع مدني ديمقراطي.
وفي هذا السياق، تركت قوى الحرية والتغيير للفريق البرهان وزملائه، وجميعهم جزء من شبكة التمكين، مهمة تفكيك التمكين نفسه! وكانت النتيجة أن بقيت الأجهزة العسكرية والأمنية على حالها، محتفظة بكوادر النظام القديم، وموالية لمصالح الحركة الإسلامية السياسية والاقتصادية، داخل وخارج السودان. فقد ظلت الشركات التابعة لها – ومنها شركة “سنكات” و”إيفريست” العاملتان تحت مظلة الجيش في مدينة إسطنبول التركية – تمارس أنشطتها من دون أي رقابة من وزارة المالية أو ديوان المراجع العام، بل إن تلك المؤسسات لا تعرف أصلاً طبيعة أنشطتها!
أما النتيجة الأخطر، فتمثلت في غياب الذراع العسكري والأمني عن حكومة الثورة الانتقالية التي ترأسها الدكتور عبد الله حمدوك. فبدت الحكومة مكشوفة، بلا حماية ولا سند فعلي، في مواجهة أجهزة دولة تميل ولاءاتها للنظام القديم وتعادي مشروع التغيير. فظل الباب مفتوحًا أمام سلسلة من المؤامرات ضد الحكومة المدنية، توّجت بانقلاب 25 أكتوبر المشؤوم، الذي أغلق – ولو مؤقتًا – باب الأمل أمام التغيير.
لسنا هنا بصدد اللوم أو التنصّل، بل لتأكيد أن هذه التجارب القاسية لا تُنقص من شرعية الثورة ولا من عظمتها، لكنها تفرض على جميع المؤمنين بها مراجعة جادة وصريحة للأخطاء الجوهرية التي ارتُكبت منذ ما بعد فض الاعتصام، ومرورًا بانقلاب أكتوبر، وصولًا إلى الحرب الكارثية التي يعيشها السودان اليوم.
فالوعي بالأخطاء هو بداية الطريق نحو استعادة الثورة وتصحيح مسارها، حقًا لا مجازًا.
وخلاصة القول: لا مستقبل للسودان دون إعادة بناء مؤسساته العسكرية والأمنية على أسس وطنية، خالية من الولاءات الأيديولوجية والقبلية، وتخضع للرقابة المدنية والمساءلة. أما تفويض أجهزة التمكين بتفكيك نفسها، فذلك وَهْم لا يليق بثورة عظيمة دفع أبناؤها وبناتها دماءهم مهرًا للحرية.