
وُضع شعب السودان في موضعه هذا بفعل التاريخ والجغرافيا، حيث لم يأتِ وجودنا في هذا المكان الممتد من تخوم الصحراء إلى أعماق السافنا صدفة، بل جاء نتيجة تراكُم آلاف السنين من التفاعل بين بيئات مناخية متعددة، وسحنات ثقافية متباينة، وأعراق وقبائل وأقاليم متجاورة، كوّنت معاً نسيجًا إنسانيًا نادرًا، يفترض أن يكون مصدر قوة وتماسك. غير أن التوظيف السياسي السلبي لهذا التنوع، عبر العقود، أدى إلى ترسيخ خطاب كراهية متبادل، يخبو حيناً ويتأجج حيناً، حتى بلغ في السنوات الأخيرة درجات غير مسبوقة تهدد بانهيارات خطيرة، أو ما يمكن وصفه بـ”النهايات الحرجة”.
أولاً: خطر الانفصال مجددًا
لعلّ أكثر النهايات الكارثية التي عشناها بسبب خطاب الكراهية، كانت انفصال جنوب السودان عام 2011. لم نخسر فقط ثلث الأرض، وإنما فقدنا كذلك جزءًا عزيزًا من شعبنا، وثقافتنا، وتنوعنا، ومواردنا، ومياهنا. وما لم نتدارك خطاب الكراهية اليوم، فقد لا ننجو من تكرار السيناريو في دارفور أو كردفان أو غيرها من الأقاليم التي ترسّخت في وجدانها فكرة “التمييز التاريخي”، وغُذّيت بمشاعر الظلم والتهميش، ما جعل خيار الانفصال – لا سمح الله – قابلًا للتكرار، لا باعتباره حلًّا، وإنما نتيجة حتمية لخطاب الانقسام.
ثانيًا: التعايش مع هشاشة الوحدة وضعف الثقة
العيش في بلد واحدًا نتبادل فيه الشكوك وسوء النوايا بيننا، هذا يجعل من وحدة السودان أشبه ببيت هش قابل للانهيار عند أول عاصفة. إنّ حالة التعايش في ظل استمرار خطاب الكراهية، لا يعدو كونه هدنة مؤقتة أو تأجيل للكارثة. ويمكن تشبيه خطاب الكراهية بحالة بـ”الجُنبّ”، كما ورد في الآية: “إذا كنتم جنبًا فاطهروا”. فكما أن الغُسل هو الشرط الأساسي للطهارة، فإن الغُسل الوطني من خطاب الكراهية هو شرط أساسي لبقاء السودان موحّدًا. وإلا فإن آثار الكراهية ستبقى كامنة تحت السطح، تنتظر لحظة الانفجار التالية، والتي قد تكون أشدّ وطأة من سابقاتها.
ثالثًا: الحرب الممتدة
النهاية الحرجة الثالثة تتمثل في استمرار الحرب. فالحرب المستمرة في الأطراف منذ الاستغلال بدأت اندلعت هذه المرة في قلب السودان في العاصمة سرعان ما تمددت، إلى الجزيرة وأجزاء من الشرق والنيل الأزرق وكل دارفور وكردفان. الحرب هي اسوا سيناريو يمكن يعيشه الانسان، لانها تعني الموت الدمار والانهيار والكراهية. اليوم حتى بعض الأقاليم التي لم تصلها الحرب، مثل اجزاء من النيل الأبيض، ونهر النيل، والشمالية لم تصبح بمنأى عنها فقد وصلتهم القذائف والمسيرات مباشرة، طالتهم آثار الحرب عبر نقص الدواء، وغلاء الغذاء، وانهيار مؤسسات الدولة. الحرب لم تعد جهوية أو محلية؛ لقد تحوّلت إلى كارثة قومية، تهدد الجميع بلا استثناء. وإن استمرارها لن يفضي إلى نصر لأي طرف، بل إلى خراب البلاد كلها.
رابعًا: مقترح الخروج من المأزق
إنّ مواجهة خطاب الكراهية والحرب والانقسام لا تكون فقط عبر الدعوات أو الأمنيات، بل عبر فعل سياسي واجتماعي ممنهج، يواجه الأزمة من جذورها. ومن هذا المنطلق، نقترح مسارًا عمليًا للخروج من المأزق الراهن:
1. وقف إطلاق نار شامل وفوري، دون شروط مسبقة.
2. الدعوة لعقد “مؤتمر كل السودانيين”، يشارك فيه ممثلون من:
• استاذة الجامعات وقادة الخدمة المدنية والعسكريّة.
• الإدارات الأهلية والقبائل.
• القضاة والمحامين والمستشارين القانونيين.
• الاقتصاديين والمراجعين.
• الأدباء والكتّاب والصحفيين.
• الدبلوماسيين وخبراء الحكم الرشيد.
يناقش المؤتمر مسألة واحدة فقط: هل التعايش بين أقاليم السودان ممكن؟ وكيف؟
3. دعوة شركاء دوليين كمراقبين ومسهلين، مثل:
• الاتحاد الأفريقي.
• الجامعة العربية.
• الأمم المتحدة وبرامجها المختلفة.
• البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وذلك لضمان الدعم الفني واللوجستي والضغط لتنفيذ مخرجات المؤتمر.
4. تكون مخرجات المؤتمر ملزمة للجميع، ويُلتزم بتنفيذها عبر آلية تنفيذ مشتركة محلية ودولية، تضمن الانتقال من حالة الحرب والانقسام إلى حالة السلم والاستقرار.
في الختام، إنّ السودان لا يحتمل مزيدًا من الحروب والانفصالات والكراهية. ولن نبني هذا الوطن على أعمدة الشك والتخوين والاستعلاء والتمييز، بل على قيم الحوار والاحترام المتبادل والعدالة. إنّ اللحظة الراهنة تفرض علينا أن نختار: إما أن ننقذ السودان بتطهيره من خطاب الكراهية، أو نواصل الانزلاق نحو نهايات حرجة لا يُحمد عقباها.