رأي

المتغيرات المصرية تُفرضها حتمية المصالح

نجم الدين دريسة

من المعلوم لكل من يتابع الشأن السوداني بوعي وتمعن، أن الدولة المصرية ظلت تمارس تدخلاً واضحًا ومستمرًا في شؤون السودان الداخلية لأكثر من قرن، بدءًا من عهد الخديوية، مرورًا بمصر الجمهورية بعد “ثورة الضباط الأحرار” في يوليو 1952، حيث شهدت تلك الحقبة تصاعدًا في محاولات فرض السيطرة المصرية على السودان.

تعاملت مصر مع السودان طوال هذه العقود كما لو كان حديقة خلفية، ساعية لإحكام نفوذها على مفاصل الدولة السودانية، مدنية كانت أو عسكرية. وكان الجيش السوداني، بطبيعته المرتبطة تاريخيًا بالتدريب والتأهيل المصري، بمثابة الأداة الأبرز التي استخدمتها القاهرة لفرض أجندتها، عبره مارست سياسات الاستغلال والتحكم والاستتباع، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

حتى بعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، لم تتراجع الدولة المصرية عن موقفها المعادي لأي تحوّل ديمقراطي في السودان، شأنها في ذلك شأن تعاملها مع الثورات الشعبية في محيطها. فقد لعبت دورًا مباشرًا في دعم الانقلابات والأنظمة الاستبدادية، وكان لها اليد الطولى في قمع إرادة الشعوب، سواء عبر الدعم اللوجستي أو التنسيق الاستخباراتي أو حتى التدخل العسكري، كما حدث إبان فض اعتصام القيادة العامة، في مشهد أعاد للأذهان فاجعة رابعة العدوية.

أما انقلاب 25 أكتوبر 2021 فقد تم برعاية مصرية واضحة، ولم تخف القاهرة دعمها المباشر للجيش، بل شاركت – بحسب تقارير موثوقة – عبر سلاح الطيران في المعارك، في انتهاك صريح للسيادة السودانية.

ورغم ثقل هذه الحقائق، إلا أن المتغيرات السياسية في المشهد السوداني تفرض على مصر اليوم مراجعة حساباتها وتكييف مواقفها. فالجيش السوداني – وهو القناة التقليدية لنفوذ القاهرة – بات يعاني من تراجع نفوذه السياسي والعسكري، مما يهدد مصالح مصر الاستراتيجية في السودان، في وقت تتضاءل فيه قدرتها على التأثير في مسار التسوية السياسية.

وقد بدأت القاهرة تدرك أن حليفها التاريخي في الخرطوم، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لا يزال أسيرًا لعلاقاته الوثيقة مع تنظيم الإخوان المسلمين، ما يجعل استمراره على رأس المشهد مغامرة غير محسوبة. في المقابل، أظهرت قوات الدعم السريع، بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قدرة ميدانية ملموسة، وإنجازات دبلوماسية واضحة، خصوصًا من خلال جولاته الأفريقية الناجحة، التي نالت قبولًا إقليميًا ودوليًا.

وبالتوازي، تصاعدت الأصوات الإسلاموية في شمال السودان، تحت لافتة “المقاومة الشعبية”، ما يمثل خطرًا إضافيًا على الأمن القومي المصري، خاصة في ظل التقارير المتواترة عن لقاءات واتصالات بين الإخوان في السودان ونظرائهم في مصر. هذا الواقع الجديد قد يدفع القاهرة إلى مراجعة موقفها من الجيش، الذي بات موصومًا بالاختراق الإسلامي.

ختامًا، يبدو أن مصر مضطرة – بحكم المصالح والحسابات الجيوسياسية – إلى إعادة النظر في طريقة تعاطيها مع الأزمة السودانية. فمصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي على المحك، مما يجعل من المرجح أن تتجه القاهرة نحو تبني مقاربة جديدة أكثر واقعية، تراعي التحولات العميقة التي يشهدها السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!