رأي

هدنة الفاشر حين يتحول الغطاء الإنساني إلى ممر للسلاح الكيميائي

محمود كاربينو

في توقيت بالغ الحساسية، طُرحت مجدداً دعوة لهدنة إنسانية في مدينة الفاشر، المدينة التي تمزقت أطرافها تحت وطأة الحرب، وتحولت إلى بؤرة استراتيجية للصراع المفتوح بسبب حرب الجيش الذي بات واقعياً تحت قبضة الحركة الإسلامية ، من حيث الظاهر فإن أي هدنة مطروحة في هذا السياق تبدو فرصة لإنقاذ ما تبقى من أرواح مدنية، ولفتح ممرات آمنة لإيصال الغذاء والدواء ، لكن الواقع على الأرض يكشف نوايا مغايرة تماماً لما يُعلن.

الجيش وبعد أن رفض مراراً وتكراراً السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى المدينة، يعاود اليوم رفع شعار الهدنة ولكن ليس بدوافع إنسانية، بل لحاجة عسكرية مُلحة ، حيث تشير المعطيات إلى أن الهدنة المطروحة ليست إلا ستاراً لعملية واسعة تهدف إلى إدخال إمدادات عسكرية متقدمة، من بينها أسلحة محظورة دولياً مثل السلاح الكيميائي ، هذا التحرك ليس جديداً على عقلية نظام الاخوان الذي خبرته دارفور طوال العقدين الماضيين، والذي لم يتورع يوماً عن استخدام كل أدوات البطش والتنكيل من أجل البقاء في السلطة، ولو على أنقاض المدن وأشلاء المدنيين.

المفارقة أن قوات الدع&م ال&سري&ع كانت أكثر حرصاً على حماية المدنيين من أن تتحول الفاشر إلى محرقة مفتوحة ، فقد طرحت القيادة أكثر من مرة مبادرات واضحة وصريحة لإجلاء المدنيين من المدينة، إدراكاً منها لحقيقة أن الحركة الإسلامية تستخدمهم كدروع بشرية، وتسوقهم في تحالفها مع بعض قادة القوات المشتركة كبيادق طيعة في مسرح الطغيان ، لم تكن الفاشر يوماً هدفاً لقوات الدع&م ال$سري&ع، رغم القدرة والإمكانية، بل جرى تأجيل الحسم مراراً بدافع أخلاقي يحترم وجود المدنيين ، واليوم وقد تم إجلاء العدد الأكبر من السكان، لم يبقى عذر لاستمرار الجيش في اتخاذ المدينة كخندق دفاع أخير، إلا الرغبة في الاحتماء بمحيطها لتأخير سقوطه العسكري والمعنوي وتحريرها من قبل اشاوس وابطال التغيير.

الأمر المثير للقلق أن المدينة نفسها لم تعد تحتضن سكاناً مدنيين بالمعنى الحقيقي، بعد أن دفعت أعداد كبيرة من المواطنين للنزوح إلى مناطق مثل طويلة ومحيطها ، الفاشر الآن هي مدينة حرب صافية، لا صوت فيها يعلو فوق الرصاص، ولا وجود حقيقي فيها لمدنيين محتاجين لإغاثة آنية ، ومع ذلك تُطرح الهدنة كأن المدينة ما زالت تنبض بالحياة، وكأن الهدف إنقاذ سكانها، لا إنقاذ مواقع عسكرية محاصرة أو إعادة تموين وحدات باتت على وشك الانهيار.

في خضم ذلك يغيب دور الأمم المتحدة بشكل يثير الكثير من التساؤلات ، فبينما كانت مناشدات قوات الدع$م الس$ريع واضحة، ومطالب تحالف تأسيس متكررة بضرورة التدخل العاجل وتقييم الوضع الإنساني بشكل محايد، لم نشهد أي تحرك فاعل من المنظومة الأممية ، هذا الصمت الأممي إزاء المخاطر الإنسانية الفعلية، وفي المقابل التعاطي مع روايات الجيش الإرهابي كحقائق مسلم بها، يضعف من مصداقية المقاربة الدولية تجاه الملف السوداني برمته ، فهل الأمم المتحدة غير مدركة لطبيعة من يسيطر على الجيش؟ وهل تغفل عن حقيقة أن الحركة الإسلامية هي التي تدير دفة الحرب، وتتحكم في قرارات السلم والمساعدات من داخل أجهزة الدولة القديمة التي ما تزال تنخر في جسد السودان؟

والأدهى من ذلك أن قيادات في الحركات المسلحة، التي يفترض بها أن تقف على مسافة واحدة من أطراف النزاع حفاظاً على المدنيين، انزلقت في وحل الارتزاق، وذهبت نحو تحالف المال والنفوذ مع الحركة الإسلامية، بدلاً من التمسك بالحياد وتجنيب الفاشر ويلات القتال ، هذا الانحراف الأخلاقي والسياسي لا يُغتفر، لأنه ساهم بشكل مباشر في تعقيد المشهد وإطالة أمد الحرب على حساب دماء الأبرياء.

الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن الحركة الإسلامية لا تريد سلاماً، ولا تسعى إلى تسوية، بل تعمل بوعي كامل لإطالة أمد الحرب، لأنها تدرك أن أي نهاية للصراع ستعني نهايتها السياسية والعسكرية ، لذلك فهي ترفض أي مبادرات جادة، وتعطل وصول المساعدات، وتستغل أي هدنة محتملة لإعادة ترتيب أوراقها وتعزيز مواقعها ، إنها تقاتل من أجل مشروعها القديم، المشروع الذي أسقطته الثورة لكنه لم يُستأصل من الجذور ، الفاشر في هذا المعنى، ليست سوى إحدى الجبهات في معركة كبرى بين مشروعين متضادين ، أحدهما يؤمن بالحرية والتحول، والآخر يحن إلى المركزية والوصاية والتحكم بالحديد والنار.

إذا استمر العالم في غض الطرف عن هذه الحقيقة، وإذا بقيت الهدن تُمنح بلا مساءلة، فإن ما يُمنح باسم السلام سيتحول إلى أداة للموت، وما يُفتح من ممرات إنسانية سيُستغل كممرات عسكرية ، وهذا ما يجب كشفه، ورفضه، وفضحه بكل وضوح، لأن الصمت في مثل هذه اللحظة خيانة، ولأن كل هدنة كاذبة تقتل الأمل قبل أن تنقذ الأرواح.
h

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!