
في مدينة لوس أنجلوس، وبين جدران جامعة كاليفورنيا العريقة، وبينما كنت أتابع دراساتي العليا في علم النفس المجتمعي، لم تغب صديقة عن بالي. كنت أرى وجهها الشاحب في وجوه كل من التقيتهم من اللاجئين وضحايا النزاعات، وكانت صرخاتها المكتومة تصدح في داخلي، تذكرني بأن الوطن بعيد، لكنه لا يغادر القلب.
تواصلت مع الدكتور مايكل ويلفر، أستاذ علم النفس التشريحي وأحد أبرز المتخصصين في الصدمات النفسية الناتجة عن النزاعات المسلحة. حدثته بتفصيل مؤلم عن صديقتي، عن موهبتها المهدورة، وطفولتها المصلوبة على جدار الفقد. بعد لقاء تلفزيوني مع إحدى القنوات عن ضحايا الحرب، أبدى اهتمامًا كبيرًا بحالتها.
قال لي يومها:
“إنها تقترب من حالة ما يُعرف برُهاب الحرب، لكن لا يمكننا التأكد دون محاورتها شخصيًا.”
بصعوبة، وبعد جهود من أصدقاء طيبين، استطعنا تأمين تذكرة سفر لصديقة إلى الخرطوم، على أمل أن تلحق بها إلى القاهرة، ومنها إلى أمريكا للعلاج المجاني تحت إشراف الدكتور ويلفر.
كان ذلك في مطلع أبريل 2023. كانت هناك بارقة أمل صغيرة، كضوء شحيح في ممر طويل. لكن سرعان ما انطفأ الضوء… اندلعت الحرب.
توقفت الاتصالات. لا رسائل، لا أخبار، فقط صمت يُطبق على القلب. علمنا لاحقًا أن والدتها أصرت على العودة إلى الفاشر بعد طول انتظار على حدود مصر، بسبب التعقيدات الأمنية وعدم صدور الموافقة الرسمية. ذهبتا إلى قلب الحرب مرة أخرى، وكأن المصير لا يعرف إلا التكرار.
ومنذها، لا أعرف عن صديقة شيئًا إلا ما ينقله العابرون من أخبار شحيحة… أنها ما زالت هناك، تنتظر. تنتظر نهاية الحرب. تنتظر الحياة أن تعتذر. تنتظرنا.
لقد أصبحت صديقة رمزًا لكل جيلنا… جيل الحلم الذي اختُطف، والقصيدة التي لم تكتمل، والمسرح الذي تحوّل إلى مستشفى.
وفي كل صباح بارد في كاليفورنيا، حين يهب نسيم المحيط، أسمع صوتها يردد:
“سواني وسودانية… نبني وطنًا، ولو على حطام أرواحنا.”
لكن هل ينتظر الوطنُ أبناءه؟
أم نحن من نظل في الانتظار، إلى أن يأذن التاريخ بصفحة جديدة؟
لا أدري.
نهاية.