رأي

عندما يكون توثيق الجريمة هو الجريمة؛ اطلقوا سراح احمد القادر، وامسكوا الجياشي السارق (!)

عباس احمد السخي

في سابقةٍ مفجعة لا تخطئها عين الضمير، ووسط مشهد عبثي تتقاطع فيه المأساة بالفضيحة، استيقظ السودانيون مؤخرًا على جريمة مزدوجة: الجريمة الأولى هي سرقة منازل المواطنين في مدينة بحري من قِبل أفراد ينتمون للجيش السوداني، أما الجريمة الثانية – والأشد فظاعة – فهي اعتقال المواطن الشريف أحمد عبد القادر، لمجرد أنه وثّق بهاتفه المحمول واحدة من هذه الجرائم التي يندى لها الجبين.

لقد انتشر الفيديو الذي صوّره أحمد عبد القادر بسرعة البرق، وهو يرصد لحظة اقتحام وسرقة أحد منازل المواطنين على يد جندي يرتدي زي القوات المسلحة. لم يكن في المشهد التباس، ولم تكن هناك حاجة إلى روايات متعددة؛ كان الصوت واضحًا، والصورة دامغة، والمجرم في قلب اللقطة.

وفيما أثنى كثيرون من رواد مواقع التواصل على شجاعة أحمد، واعتبروه مثالًا للمواطن المسؤول الذي لا يصمت على الجريمة، فوجئ الجميع في اليوم التالي باختفائه القسري. أُعتقل أحمد عبد القادر دون أمر قضائي، ودون مسوغ قانوني، وتم اقتياده إلى جهة مجهولة، لتنقطع أخباره تمامًا منذ 25 يونيو 2025. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد السؤال: “من سرق المنزل؟” بل صار السؤال الأهم: “أين أحمد؟ وهل لا يزال حيًا؟!”

إن ما حدث مع أحمد عبد القادر ليس حادثة معزولة، بل هو دليل صارخ على انهيار منظومة العدالة تحت حكم حكومة الأمر الواقع ببورتسودان، والتي استمرأت قلب المعايير وقلب الحقائق، حتى بات توثيق الجريمة جريمة، والتستر على المجرمين فضيلة، ورفع الصوت بالحق تهديدًا للأمن القومي!

السلطة التي تعتقل من يصور جريمة، وتترك الجناة يسرحون ويمرحون، هي سلطة لا يمكن الوثوق بها، ولا يمكن اعتبارها أمينة على شعبها أو مؤتمنة على تطبيق القانون. بل إنها تبرر الجريمة وتوفر لها الغطاء، وترسل رسالة خطيرة إلى من يملكون كاميرات أو هواتف: “أغلقوا عيونكم، واصمتوا، وإلا ستُدفنون مع الحقيقة!”

ليست هذه المرة الأولى التي يُتهم فيها الجيش السوداني بعمليات نهب منظم في الخرطوم الكبرى. فمدن بحري والخرطوم وام درمان، شأنها شأن مدن السودان التي سيطر عليها الجيش مؤخر، تعيش على وقع كارثة مستمرة منذ شهور. فقد أفاد شهود عيان ومواطنون عادوا إلى أحيائهم المنكوبة أن ما تبقى من المحال التجارية والمنازل يتعرض لنهب ممنهج على يد أفراد يرتدون زي القوات المسلحة، في وضح النهار، وبتحدٍ سافر.

وتشير الروايات إلى أن ما يُنهب يُنقل مباشرة إلى أسواق أم درمان، حيث يباع على المكشوف، وسط صمت مريب من قيادة الجيش، التي لم تحرك ساكنًا، ولم تصدر بيانًا واحدًا يدين أو ينفي هذه الممارسات. وترافق هذه الفوضى الأمنية، فوضى أخلاقية أكبر، حيث نشطت مجموعات من المدنيين في سرقة ما تبقى من المنازل المهجورة، تحت ذريعة “الكل يسرق”، فاختلط الحابل بالنابل، وأصبحت المدينة نهبًا بين من يفترض بهم أن يحموا، ومن لا يملكون غير جوعهم ورغبتهم في النجاة.

إنّ استمرار اعتقال المواطن أحمد عبد القادر، وانقطاع أخباره، هو بمثابة إدانة رسمية لحكومة بورتسودان، ووصمة عار في جبين كل من صمت عن هذه الجريمة. فبدلًا من أن يُكرّم أحمد على شجاعته، وبدلًا من أن يُحتفى به كصوتٍ للضمير الجمعي، قررت السلطات أن تعاقبه لكونه “لم يصمت”، وهي تهمة لا توجد إلا في جمهوريات الرعب.

إن المطالبة بإطلاق سراح أحمد ليست مسألة تضامن مع فرد، بل مع فكرة المواطنة، ومع مفهوم العدالة، ومع حقنا جميعًا في أن نرى ونوثّق ونشهد، دون أن يُختطف أحدنا أو يُخفى لمجرد أن هاتفه كان شاهداً.

ومحاسبة الجنود الذين سرقوا منازل المواطنين هي المدخل الصحيح لإعادة بناء الثقة، أما اعتقال الشهود فهو إعلان رسمي بانهيار آخر أعمدة الدولة، وتحولها إلى كيان يطارد الشرفاء ويكافئ المجرمين.

إن السودان الذي نحلم به، ونضحي من أجله، ليس سودانًا تُسرق فيه البيوت ويُختطف فيه من يصرخ “حرام!”، بل وطن يُكرّم من يُوثّق الجريمة، ويُحاكم من يرتكبها. وطن يُعيد تعريف البطولة لا باعتبارها قدرة على القتل أو النهب، بل الشجاعة في قول الحقيقة.

ولذلك، فإننا نطلق صرخة داوية من هنا، ندعو فيها إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن المواطن أحمد عبد القادر، ومحاسبة الجنود الذين ظهروا في الفيديو، واستدعاء قيادة الجيش في المنطقة المعنية للمساءلة، وفتح تحقيق عاجل في حالات النهب في الأماكن والمدن الأخرى، وإشراك منظمات حقوق الإنسان، ووقف الحرب التي حوّلت الجيش إلى آلة قمع، والمدن إلى خرائب، والمواطن إلى مشروع ضحية.

إن الصمت خيانة، وإن التهاون في الحقوق كارثة، وإن تجاهل نداءات العدالة هو طريق نحو الهاوية. فلتُفتح الأبواب أمام صوت أحمد عبد القادر، ولتُغلق أمام لصوص المنازل والضمائر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!