رأي

تسعون يومًا، هل تعود بالسودان إلى العزلة؟!

الجميل الفاضل

الجميل الفاضل

تسعون يومًا، لا تزيد ولا تنقص، هي فقط ما يفصل السودان عن التدحرج إلى هاوية عزلة ستُطبق لا محالة على رقبة البلاد، قبل أن تكتم أنفاس أهلها.

فقانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية الأمريكي ينصّ على حزمة عقوبات متدرجة تبدأ بوقف المعونات غير الإنسانية، وحظر بيع الأسلحة والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج للسودان، مع وقف دعم الصادرات، فضلًا عن حظر أي قروض أو ائتمانات من البنوك الأمريكية لحكومة بورتسودان، باستثناء الغذاء والزراعة.

ستار أسود:

لكن بعد ثلاثة أشهر من بدء تطبيق هذه الحزمة المخففة، الجمعة الماضية، فإن الولايات المتحدة ستقوم بفرض عقوبات أكثر قسوة في حال عدم رضوخ الجيش للشروط الأمريكية، وهو ما قد يقود إلى إغلاق كامل لأبواب التمويل الدولية، بما في ذلك قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إضافة إلى تقليص أو تعليق التمثيل الدبلوماسي الأمريكي، كمقدمة تُفضي إلى إسدال ستار أسود من العزلة على البلاد.

المطلوب أمريكيًا:

المهم، أن الولايات المتحدة ألقت قنبلتها: في صورة عقوبات بدأت في السادس والعشرين من هذا الشهر،

مصحوبة بمطالب واضحة: توقفوا عن استخدام الأسلحة الكيميائية، افتحوا أبوابكم للتفتيش الدولي، أعلنوا عن أي مخزونات، ودمّروها تحت أعين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.

رفض الامتثال:

لكن، ما الذي سيحدث لو أن السودان أغلق بابه ورفض الامتثال؟ في هذه الحالة، ستُغلق مباشرة أبواب المساعدات الدولية.

البنك الدولي وصندوق النقد سيشيحان بوجهيهما عن البلاد،

وإغلاق السفارة الأمريكية في الخرطوم لن يكون مجرد تهديد، بل مقدمة لقطيعة واسعة مع العالم.

العلاقات الدبلوماسية قد تنهار، تاركة السودان وحيدًا في عالم لا يرحم.

وقد تحذو دول أخرى حذو أمريكا، فتصبح البلاد منبوذة من جديد، كطائرٍ أُغلق عليه قفص، بلا أجنحة للطيران.

الطائرات السودانية قد تجد نفسها محرومة من عبور الأجواء الأمريكية، ومحاصَرة بقيود تجعل السفر والتجارة حلمًا بعيد المنال.

قطع غيار الطائرات ستتوقف مرة أخرى، وقد تصبح مطارات السودان ساحاتٍ للغبار بدلًا من بواباتٍ إلى العالم.

مسمار على النعش:

بيد أن الأدْهى، أنه إذا أثبتت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية وجود انتهاكات، فإن إدانة دولية واحدة في الأمم المتحدة قد تُطوّق السودان بحبل العقوبات العالمية.

وكل خطوة ترفض فيها حكومة بورتسودان التفتيش ستكون مسمارًا إضافيًا في نعشها.

إخماد النار بالنار:

اللافت أن “ترامب”، وفي أول يوم يعود فيه إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، تعهّد بأن يُلقي بثقل دولته الكبير وراء مهمة إخماد نيران الحروب المستعرة حاليًا في العالم، قائلاً: “ستُوقف قوّتنا الحروب، وتجلب روحًا جديدة من الوحدة إلى عالم كان غاضبًا وعنيفًا”، مؤكدًا أن “قوات بلاده ستركّز على مهمتها الوحيدة، وهي إلحاق الهزيمة بأعداء أمريكا”.

وبالتالي، يمكن القول إن تعلّق ترامب بحلم أن يصبح بطلًا يصنع السلام للعالم لم ينشأ من فراغ.

فقد بدا الرئيس ترامب واثقًا وهو يتحدث عن فرصه لفرض السلام، استنادًا إلى قوة بلاده، سواء عبر سلاح العقوبات أو سلاح النيران، اللذين استخدمهما ضد إيران مؤخرًا لإجبارها على الوصول إلى سلام مع بلاده ومع إسرائيل.

صفقة مع التاريخ:

لكن يبدو أن الرئيس الأمريكي ترامب بات يفكر بعقلية تجارية، في إبرام صفقة استثمارية مع التاريخ نفسه هذه المرة،

صفقة تؤهله لأن يُضيف اسمه إلى قائمة رؤساء الولايات المتحدة الذين خلدوا أنفسهم في سِفْر التاريخ، بلعبهم أدوارًا مؤثرة ومهمة في إيقاف حروب معقدة على مستوى العالم، أهلت بعضهم للحصول على جائزة نوبل للسلام.

وبطبيعة حال ترامب، وشخصيته التي لا تقبل الهزيمة، يُرجَّح أن يستخدم الرجل كافة أدوات القوة التي ألمح إليها في خطاب تنصيبه، للوصول إلى وقفٍ للحروب، ومن بينها حرب السودان، المُدرَجة حديثًا في جدول أعماله.

صوت عذاب:

بل ربما تصبح العقبة الأكبر أمام سلام ترامب هي تَنفُّذ جماعة الإخوان المسلمين في سلطة بورتسودان، وهو ما استدعى استعانته بدولة قطر، رغم أن طغيان ميول الإسلاميين في السودان نحو الإجرام بشتى صوره لم يتوقف، ولا لساعة، منذ أن ذهب شيخهم الترابي إلى السجن بقرار مباشر منه، وذهب البشير بأمره إلى القصر رئيسًا، فكأنما حلّ بالسودان في ذلك اليوم صوت عذابٍ مقيم، لم يغادره حتى هذه اللحظة، جعله محلّ عقاب دولي مستمر، لا يخفّ أو يرتفع إلا ليعود أشدّ وأقسى.

وصف بن لادن:

وللمفارقة، فقد جاء أبلغ وصف لحالة هذه الجماعة على لسان أسامة بن لادن بعد مغادرته الخرطوم إلى أفغانستان، حيث قال: “ما يحدث في السودان هو خليط بين الدين والجريمة المنظمة”.

إذ أضحت الخرطوم آنذاك، مقر “المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي”، عاصمةً للأفاعي، وموئلًا لشُذّاذ الآفاق من كل نوع وجنس: المطرودين من بلدانهم، ومفجّري أنفسهم، والطائرات.

إجرام الدولة:

ثم صار السودان، لثلاثة عقود أو يزيد، وكرًا لإجرام الدولة، التي نشطت في نشر أيديولوجيتها عبر واجهاتها المنتشرة على نطاق الإقليم، بل وتدبير اغتيال بعض رؤساء الدول الذين استعصى ترويضهم، فضلًا عن محاولات تغيير الأنظمة شرقًا وغربًا حسب ما تهوى.

فقد كان نظام الإخوان المسلمين في الخرطوم مثالًا لشهوة الأنظمة المؤدلجة في تغيير العالم بأسره.

ولذا، فقد تفوّق وأصبح له قصب السبق في ارتكاب جرائم دولية نادرة الحدوث، جرّت على السودان عقوبات لا حصر لها ولا عدد.

وأصبح للبلاد من ثمّ أفظع وأضخم سجلّ إجرامي على مستوى العالم.

وللحقيقة، فلن تعود حياتنا في السودان إلى طبيعتها وعاديتها، ما لم يُبعَد عن طريقها أناس غير عاديين في كل شيء، سيطروا على كل شيء لأكثر من ثلاثة عقود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!