
في رواية “الإخوة كارامازوف” للروسي “فيودور دوستوفيسكي”، أب لديه أربعة أبناء، لكنه لا يحبهم، ولا يحب كل منهم الآخر، علاقتهم ببعضهم البعض تحكمها المصلحة ولا غير، ولكنها تصل إلى قمة العداء بين الأب واحد أبنائه لخلافاتهم المادية، إذ كان الأب ينفق غالب أمواله على الراقصة “لولا”، التي يحاول الابن أن يصل إليها ليحذرها من الاهتمام بأبيه، ولكنه يقع في حبها، مما زاد من الكراهية، بين الأب وابنه. يعرض الأب على “لولا” أن توافيه في المنزل مقابل ثلاثة آلاف قطعة نقدية، فيهدد الابن أباه أمام الجميع بقتله إذا حضرت إليه، ويستغل أحد الموجودين بالمنزل الموقف، وهو من أبناء الرجل – لكنه ينكره – فيقتل الأب، فيُتهم الإبن عشيق “لولا”، بالجريمة. وبينما يحاول شقيقه إثبات براءته دافعاً باعتراف القاتل الصريح له، يشنق القاتل نفسه، فقط ليُحكم على عشيق لولا بالإعدام بعد غياب دليل براءته، وهو ما حدث، وسط ذهول الجميع.
ولئن كانت ثمة علاقة هي أشبه بعلاقة الإخوة الأعداء هؤلاء في رواية دوستوفيسكي سالفة الذكر، فهي العلاقة بين مكونات تحالف بورتسودان الذي بني على باطل الاستثمار في الخراب وإزهاق أرواح السودانيين ، والدماء المسفوكة تنفيذاً لقانون الوجوه الغريبة التي هي وللعجب، شديدة الشبه بوجوه جبريل ومناوي وتمبور، لكن الغرض مرض، كما إن طبيعة التحالف المتناقضة ومعرفة كل مكون من مكوناته أن الآخرين يقبلون به على مضض شديد، ويتمنون لو أنهم لم يضطروا لاحتماله باعتباره “شر لا بد منه”، ويعلم أنهم ينتظرون التخلص منه في أول سانحة للغدر والأمان من عاقبته.
وإذا استثنينا لغة ورواد أسفل المدينة من عاهرات الاستخبارات وقوادي الحركات المسلحة المتحالفة مع جيش الحركة الإسلامية من صراع الإخوة كارامازوف البورتسوداني هذا، تجد أنهم مختلفين في كل شيء وحول كل شيء، إلا في ضرورة استمرار الحرب، ففي حين يعني توقفها زوال دواعش الحركة الإسلامية من المشهد في أي تسوية قادمة، فإن يحرم كذلك مليشيات الحركات المسلحة من مبررات وجودها، وتلك الدماء التي تسفكها عربوناً لبقائها في بورتسودان.
وما دون ذلك فإن الإخوة الأعداء مختلفون في كل شيء. تقول مليشيا “المشتركة”، أن اتفاق جوبا لسلام السودان “لم يكن تسوية سياسية عابرة”، أو “تقاسماً شكلياً للسلطة”، بل جاء لـ”معالجة اختلال ظل يحرم ملايين السودانيين من حقوقهم في وطنهم!”. في حين أن القاصي والداني يعلم أن الوثيقة الدستورية نفسها لم تعد تصلح كأداة للاحتكام بعد أن أعمل البرهان الشطب في بنود الوثيقة ما أحالها لمسخ لا يصلح لشيء بغياب أطرافها، وفقدانها قيمتها التي جاءت من التوافق السوداني العريض، وليس من ترقيم البنود وشكل العبارات.
وغني عن القول أن اتفاق جوبا نفسه قد صار إلى زوال باعتباره جزءاً من الوثيقة الدستورية الموؤودة بأمر البرهان، فضلاً عن انقسام الموقعين عليه بين “تحالف السودان التأسيسي” و”تحالف بورتسودان”، وكذلك انقضاء أجله بانتهاء المدة الزمنية المحددة له فتجد أن “الجنازة حامية والميت كلب”، كما يقول المثل السوداني القديم، ومليشيا المشتركة هي أول من يعلم أن حديثهم عن اتفاق جوبا هذه الأيام، لا يمكن أن يكون معنياً بمعالجة أي اختلالات في السودان، صغر شأنها أم كبر.
عادت مليشيا المشتركة للحديث عن “الترميز التضليلي”، فيما وصفه الإخواني المقرب من الأجهزة الأمنية “عبد الرحمن عمسيب” بـ”العدة القديمة”، سخرية من شعارات مليشيا المشتركة الكذوب، والتي ثبت – وبالدليل – أنها لم تكن سوى لافتات للإرتزاق.
ولما يزيد من العامين ظلت مليشيا المشتركة تتطوع بعمل الإخوان “القذر”، وترتكب الجرائم إرضاءً لدواعش بورتسودان. فاعتدت المشتركة على بادية الزرق وقتلت سكان الخيام من الآمنين بدعوى “الحواضن” الشيطانية، والتي تحلل ذبح المدنيين على الإثنية، تنفيذاً لفتوى فقيه آخر الزمان علي كرتي. وارتكبت الجرائم ضد كبار السن والنساء والأطفال في “الخوي” و”أم صميمة”، لكن كل ذلك لم يشفع لهم عند أسيادهم، فأطلقوا عليهم “عاهرة” تحط من قدرهم صباح مساء، تصفهم بالعبيد وتنعتهم بأبشع الألفاظ والنعوت دون أن يتمكنوا من عمل شيء، بل يضطر قوادو مليشيا المشتركة، للجلوس مع ذات الذي أطلق عليهم العاهرة، لمساومته على الغنيمة، بعد أن وقفوا عاجزين أمام شتائم عاهرة تتبع للأجهزة الأمنية، فسبحان المعز المذل.
وللغرابة يتحدث قوادو مليشيا المشتركة اليوم عن “بناء الوطن العادل والمستقر!” وعن “الحقوق الأصيلة لكل مكونات السودان”، وضرورة “إعادة تشكيل الدولة على أسس المواطنة والعدالة وعن “شراكة حقيقية تُنهي عهد الإقصاء” وعن “دولة المواطنة والحقوق والواجبات”، وهم أول من نسف إمكانية تحقيقها عبر مساندة انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر! وها هم الآن يلهثون نحو مال الوزارات، يتلمظون لنهب المال العام في بلد أنهكته الحرب، بينما ينتظر الدواعش الفرصة للإجهاز عليهم متى صار ذلك ممكناً، وبعواقب يمكنهم احتمالها. إنه حقاً صراع الإخوة “كارامازوف”، والذي تغذيه الكراهية والجشع وكل ما ورد في سفر الوصايا العشر من خطايا، وعدت الأديان أصحابها بالهلاك. ألا لعنة الله على إخوان الشياطين.