الذهب والسلاح في السودان: من يربح ومن يدفع الثمن؟!

تقرير: التنوير
في خضمّ الحرب المدمّرة التي اندلعت في السودان منذ 15 أبريل 2023، لم يعد الذهب مجرد مورد اقتصادي، بل تحوّل إلى عنصر محوري يُؤجّج النزاع ويُطيل أمده. وبينما يُهجّر الملايين ويُقتل الآلاف، وتتهدد المجاعة حياة ملايين المواطنين، تتنازع القوات النظامية والمليشيات المسلحة على السيطرة على مناجم الذهب، التي باتت تمثل المصدر الرئيسي لتمويل العمليات العسكرية وشراء الولاءات السياسية.
يُعدّ السودان ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا بعد جنوب أفريقيا وغانا، إلا أن هذه الثروة لا تُسهم في دعم خزينة الدولة أو مشاريع التنمية، بل تُنهب وتُحوّل إلى جيوب المتقاتلين، في ظل فراغ مؤسسي وانتشار ممنهج للفساد.
ورغم اتساع نشاط قطاع التعدين، تغيب الإحصاءات الدقيقة حول حجم الإنتاج. ويؤكد عاملون في القطاع ومسؤولون حكوميون أن معظم الذهب المُستخرج يُهرّب إلى خارج البلاد، بعيدًا عن أي رقابة رسمية أو شفافية مالية.
آليات الإنتاج
لا توجد خريطة رسمية واضحة أو دقيقة لأهم مناطق إنتاج الذهب في السودان بعد اندلاع الحرب، التي أدّت إلى خروج ثماني ولايات من دائرة الإنتاج. وبذلك لم يتبقَّ سوى الولايات التي كانت منتجة للذهب قبل الحرب، وعددها ست ولايات، أبرزها: ولاية نهر النيل، الولاية الشمالية، وولاية البحر الأحمر.
وتُعرف مناطق قبقبة في نهر النيل، ودلقو في الشمالية، ومرتفعات وسواحل البحر الأحمر، بكونها من أكثر المناطق إنتاجًا للذهب. وتعتمد هذه المناطق بشكل كبير على التعدين التقليدي، الذي تشير التقارير الرسمية إلى أنه يمثل أكثر من 80% من إجمالي إنتاج الذهب في البلاد، ويعمل فيه عشرات الآلاف من المعدّنين التقليديين. في المقابل، تنتج الشركات الحاصلة على حقوق امتياز نحو 20% فقط من الكمية الإجمالية.
وينشط في هذا القطاع عدد من الشركات الأجنبية، إلا أن الشركات الروسية تُعد من أبرز الفاعلين فيه.
وبحسب مصادر مطلعة في قطاع التعدين، فإن الجيش يسيطر على غالبية إنتاج الذهب، إما من خلال الإنتاج المباشر، أو عبر شراء الذهب من المعدّنين التقليديين، مستفيدًا من تحكمه في طباعة العملة. كما يهيمن على عوائد الشركة السودانية للموارد المعدنية، وهي الجهة الرسمية التابعة للدولة والمسؤولة عن منح التراخيص وفرض الرسوم على نشاط التعدين.
كذلك، تخضع شركة أرياب للتعدين، وهي أكبر شركات التعدين الحكومية في السودان، لإشراف الجيش. وتفيد مصادر رسمية في بورتسودان بأن عائدات الشركة تُحوَّل إلى حسابات مصرفية خارج البلاد.
الجيش وتمويل الحرب بالذهب
في فبراير الماضي، صرّح محمد طاهر عمر، مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية – الذراع الرقابي لوزارة المعادن – في تصريحات صحفية، أن إنتاج الذهب في العام 2024 بلغ 64 طناً، بعائدات وصلت إلى 1.7 مليار دولار.
وقد قوبلت تصريحات عمر بصدمة واسعة في أوساط المتعاملين في قطاع الذهب، نظراً للفجوة الكبيرة بين حجم الإنتاج المُعلن والمبالغ التي دخلت خزينة الدولة. وأشار في حديثه إلى أن 52% من الذهب يتم تهريبه إلى خارج البلاد عبر قنوات غير رسمية.
لكن، ووفقاً لمصادر داخل وزارة المعادن، طلبت عدم الكشف عن هويتها، تحدثت إلى “سودان بيس تراكر” مؤكدة أن التقديرات الفعلية لإنتاج الذهب في العام 2024 تبلغ نحو 85 طناً، منها 50 طناً تم تصديرها بواسطة الجيش السوداني خارج الأطر الرسمية، وبقيمة تتجاوز 4 مليارات دولار.
وفي هذا السياق، أفاد مصدر أمني في مدينة بورتسودان أن الجزء الأكبر من هذه العائدات يُستخدم في شراء طائرات مسيّرة، وأسلحة، وذخائر، بالإضافة إلى تمويل الولاءات السياسية والحملات الإعلامية والسياسية والدبلوماسية.
وأكد المصدر أن الجيش يقوم بتصدير الذهب الخاص به إلى مصر، حيث أنشأ هناك شركة باسم “الأفريقية”، يشرف عليها مدير التصنيع الحربي الفريق ميرغني إدريس، وتدار من قبل رجال أعمال سودانيين تربطهم مصالح مباشرة بالمؤسسة العسكرية.
وكان وزير المالية، جبريل إبراهيم، قد صرّح في خطاب جماهيري نقله التلفزيون في فبراير الماضي، أن مسؤولين في دولة مجاورة – في إشارة إلى مصر – أبلغوه خلال زيارته لها أنهم حصلوا على 48 طناً من الذهب السوداني خلال عام 2024.
وفي سياق متصل، أعلن إيهاب واصف، رئيس شعبة الذهب والمعادن الثمينة بغرفة الصناعات المعدنية المصرية، في بيان صدر بتاريخ 16 مايو الماضي، أن صادرات مصر من الذهب بلغت 3.2 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2025، مشيراً إلى أن هذه هي أعلى قيمة يحققها القطاع خلال ثلاثة أشهر في كل تاريخه.
ضحايا الذهب:
الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر من هذه الثروة، ليس فقط لأن هذه الثروة الضخمة تذهب إلى جيوب الجنرالات دون أن تصل إلى الخزينة العامة، لتنعكس عليه في التنمية والمعيشة والصحة والتعليم، وليس فقط لأنها تُستخدم في تمويل الحرب التي أجبرت أكثر من 10 ملايين سوداني على النزوح واللجوء، وانتشرت المجاعة في مناطق واسعة. بل أيضاً بسبب الكوارث البيئية وانتشار أمراض السرطان في الولايات التي توجد فيها مناجم الذهب، نتيجة استخدام مواد كيميائية خطيرة مثل الزئبق والسيانيد في استخراج الذهب بطريقة يدوية تقليدية، مما أدى إلى تلوث التربة ومصادر المياه.
قال لنا أحد سكان ولاية نهر النيل إن 9 من أفراد أسرته الكبيرة، التي تضم 24 شخصاً، أصيبوا بالسرطان بسبب إقامتهم بالقرب من مناطق التعدين التقليدي.
وبحسب مصدر من الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية السودانية، تحدث إلى Sudan Peace Tracker، أكد أن هناك نحو 48 شركة تعمل في استيراد المواد الكيميائية، خصوصاً السيانيد، لكن أغلبها توقفت عن العمل، حيث أصبحت شركة Maadin التابعة للجيش السوداني شبه محتكرة لاستيراد هذه المواد إلى البلاد.
وأضاف المصدر أن السيانيد كان يُستورد سابقاً من الصين والهند، مشيراً إلى أنه “قبل الحرب وصلت شحنة ضخمة من الصين استوردها الجيش”.
وقال لنا صاحب شركة تعمل في تجارة الذهب ببورتسودان إن الزئبق يُهرب من النيجر ومالي عبر الحدود مع ليبيا: “بعد الحرب، أصبح يدخل عن طريق الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تتمركز على الحدود الليبية وتنشط في تجارة الممنوعات والبشر”.
وأكد المصدر من هيئة الأبحاث الجيولوجية أن الجيش حالياً يعتبر “المورد الرئيسي والوحيد لهذه المواد الكيميائية الخطيرة”.
الذهب السوداني بين النهب والسلام
الذهب الذي كان يمكن أن يكون مصدرًا للرخاء في السودان، وتحول إلى “لعنة” تغذي الصراع، إذ إنه مع استمرار تدفق الأموال من تجارة الذهب غير المشروعة، تتوفر موارد كافية لشراء الأسلحة وتجنيد المقاتلين، مما يطيل أمد الحرب ويقوض أي جهود للسلام. وبدون ضوابط دولية صارمة على تجارة الذهب السوداني وفرض عقوبات على الشركات والجهات المتورطة في تهريبه، ستظل الحرب مستعرة، وسيظل المدنيون يدفعون الثمن.