رأي

السودان: منطق الغنيمة والتوريث الثوري

د. الوليد آدم مادبو

“كلّ من يرى في الماضي سندًا للامتياز، إنما يزرع في الحاضر بذور الاستعباد.”

 أنطونيو غرامشي

ليس ما نعانيه في السودان محض أزمة سياسية، بل مأزقٌ في التفكير، مرضٌ في المخيال، وانحباسٌ في تصوّر الذات والآخر. إنها مأساة وطنٍ يستعصي على التغيير، لا لأن موارده شحيحة أو جغرافيته قاسية، بل لأن نخبه – من عصابة الخرطوم إلى شلة جوبا – أسيرة منطق الاستحقاق، ذلك الفخ الفكري الذي يجعل كل جماعة ترى ذاتها “أحقّ” بالحكم، و”أجدر” بالقيادة، و”أصلح” لتوجيه مصير البلاد، ولو على جثث أهلها.

*إنّ ما يعيبه “العقل المركزي” – بشماله النيليّ ومراكزه القديمة – على الحركات المسلحة*، من منطق الغنيمة والتوريث الثوري، *هو في جوهره انعكاس لذات المنطق الذي به يحكم هذا المركز*. فهو لا يرفض مبدأ الاستحقاق في ذاته، بل يرفض فقط أن يكون لغيره. ففي عرف هذه الذهنية، الحكم ليس تفويضًا شعبيًا ولا تكليفًا مدنيًا، بل هو امتيازٌ سلاليّ أو مكافأةٌ نيلية لا يجوز لغير “الأوصياء” الطمع فيها.

يُقال للحركات: أنتم طارئون، لم تبنوا الدولة، ولم تحرسوا حدودها. ولكن مَن الذي بناها أصلًا؟ وأيّ دولة تلك التي يُفاخر بها من هندس المجازر وأحرق القرى ونهب خزائن الوطن؟ أم أن من “حرّض المجاهدين” على قتل الجنوبيين، وظنّ نفسه مالكًا لأرض السودان ومن عليها، يستحق حكمها لمجرد أنه وُلد على ضفاف النيل لا في سفوح الجبال أو بطون الوديان؟

*إنّ مأساة الاستحقاق ليست في دعاوى جوبا فحسب، بل في تجذر هذا المنطق في بنية الدولة كلها:* في العقل العسكري، في النخبة الأكاديمية، في الطبقة البيروقراطية، وحتى في بعض المنابر المدنية. الكل يرى في نفسه “المنقذ” الأوحد، و”الوارث” الطبيعي، و”المجرب” المعصوم، وما الشعب إلا متفرج على مسرح تُدار فصوله بالتآمر أو الوراثة أو السلاح.

*نداءات “فكي جبرين” التي تملأ فضاء الخراب اليوم، ليست سوى انعكاس لهذا العطب العميق.* فهو لا ينادي بحقوق الناس، بل يستجدي المجتمع الدولي أن يعيده إلى “وظيفته” في النهب المقنن مؤسسيًا، إلى وزارتي المالية والمعادن تحديدًا، لا إلى مسؤوليته تجاه الذين هُجّروا ودُفنوا وهم أحياء في قراهم المحروقة. هذا الهروب من المسؤولية ليس سلوكًا فرديًا، بل هو بنيوي، يتكرر مع كل من يستثمر في الدماء ولا يستثمر في بناء السلام.

إنّ ما يُعرف اصطلاحًا بـ“القوات المشتركة” في دارفور ليست مشتركة في شيء، بل هي مشتركة في العار فقط، في *تحصين الزعامة، وتجنب الاشتباك مع البنية العميقة للدولة* التي صاغتها “مؤسسة الأبارتايد الجلابي” – وهنا لا نقصد القبيلة، بل الذهنية – تلك الذهنية التي ورثت الامتيازات من الاستعمار، واحتكرتها باسم الحداثة أو العروبة أو الإسلام أو “الاستحقاق التاريخيّ ”.

هذه النخبة – في شمال السودان كما في هوامشه – لا تزال ترى في الدولة غنيمة، وفي المواطن سلعة، وفي الكارثة فرصة تفاوضية. لم تخرج من عباءة الاستبداد، بل لبسته بألوان جديدة، وأسمته اتفاقًا أو شراكة أو مسارًا، بينما ظلّت تحتقر وجع الناس، وتنظر إليهم من نوافذ الطائرات لا من خنادق المعاناة.

لكن، وعلى الرغم من هذا الخراب المعمَّم، فإنّ الوعي الجديد يولد في أماكن لا تراها الكاميرا، في الأحياء المقاومة، في المعسكرات المنسية، في المدارس التي تحولت إلى مشافٍ، في جبهات الدفاع الشعبي الحقيقي. *لقد تملك هذا الجيل شعورًا بالعزة لا يُقاس بالبندقية، بل بالرؤية.* لم يعد يقبل أن يُعاد إلى الحظيرة. هو بحاجة فقط إلى من يعينه على التخطيط، لا من يستثمر حماسه. من يرشده، لا من يروضه. من يسهم في تحرير أدواته المعرفية، لا في بيعها للراعين الدوليين.

إنّ التسليم بمنجزات ثورة ديسمبر والالتفات لنداءات المواطنين المتكررة بضرورة إيقاف الحرب، إسعاف المتضررين والشروع في عملية سياسية تفضي إلى تسوية وطنية شاملة لا يُعد خيانة، بل ضرورة إنسانية وتاريخية. فكل تأخير في إعادة تعريف المشهد السياسي على هذا الأساس، يزيد من احتمالات الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة. إذًا لا بد من فكاك شجاع، من نقد راديكالي، من اجتراح برادايم جديد يُسائل الامتيازات لا الأنساب، ويعيد بناء الدولة على أساس المصلحة الجمعية لا السيرة الذاتية لجنرالات وقادة وُلدوا من رحم الجريمة، الانقلاب والخيانة الوطنية.

ختامًا، لن يُكتب لهذا الوطن خلاصٌ ما لم نقطع مع منطق الاستحقاق من جذوره، لا بتبديل الوجوه بل بتغيير البنية، لا بإعادة توزيع الغنائم بل بإعادة تعريف الدولة. *فالسلطة ليست ميراثًا لغويًا ولا تضحيةً موجبة للثأر السياسي، بل تكليفٌ عقليّ، ومسؤولية أخلاقية*، للتشارك لا للتسيّد. إن معركة اليوم ليست بين مركز وهامش، بل بين وعي قديم يحتضر، ووعي جديد يتشكّل، بين من يستثمرون في الخراب، ومن يحلمون بالعدالة كأفق أخلاقي لا كغنيمة سياسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!