
في بلادٍ تكسّرت فيها البوصلات، ولم يتبقَّ للناس سوى البكاء على ما لا يُبكى عليه، وجدنا أنفسنا في زمنٍ تُحكمه مفردتان فقط: *“الجَغِم والبلّ”*. ليستا مجازًا، بل تقنية للقتل الشعبي، تُمارَس في وضح النهار، ويباركها *العقل المغسول* تحت إيقاع أناشيد الحرب.
*”الجَغِم”* لم يعد فعلاً بدائيًا لشخص يبتلع ما ليس له، بل تحوّل إلى *ماكينة مؤسسية تلتهم الذهب، والنفط، والموتى، وتُنتج بلاغات وفتاوى.*
أما *”البلّ”*، فقد صار طقسًا شعبيًا لإضفاء الشرعية على هذا *الجشع*. كلمة تُقال بصوت خافت، لكنها تحمل في طيّاتها استسلامًا جماعيًا. كأنك تقول: دع الأمر للقدر، *فالعدو دائمًا هو الآخر، والحرب دائمًا هي الحل.*
تقول عالمة النفس الفرنسية ماري فرانس هيريجوين:
*“الأنظمة السلطوية لا تحتاج لإقناعك، بل فقط لإرباكك، لتخلق مساحة ذهنية تُمكِّنها من غرس أفكارها كحقائق.”*
وهذا بالضبط ما فعلته *الجبهة الإسلامية* حين تسلّلت إلى المؤسسة العسكرية، لا كضيف، بل *كمضيفٍ* أعاد تعريف معنى *الوطن، والعدو، والموت.*
في *بورتسودان*، تُدار الدولة من *سكنة عسكرية*، ويُحكم البلد عبر *فتاوى القهاوي*.
في *نيالا*، يُدفن الموتى دون أسماء.
في *الفاشر*، صارت *المقابر* أكبر من المدارس.
في *أم درمان*، تُخفي العائلات أبناءها لا من العدو، بل من *الجيش*.
ولفهم ما نحن فيه، لا بد أن نتذكّر ما حدث في *رواندا* عام *1994*.
حينها، لم يكن السلاح هو المشكلة، بل الكلمة. في راديو *“ميل كولين”*، كانت الأغاني الشعبية تُغنّى، ثم تتبعها دعوة صريحة:
*“اقطعوا التوتسي كالأنشاب.”*
هكذا تبدأ المجازر: بمصطلحات تبدو عفوية، بعبارات يُردّدها الناس دون إدراك، *ثم ينفجر العنف.*
*“بلّ بس”*، اليوم، تُشبه تمامًا تلك العبارات. تُفتح بها أبواب الجحيم، وتُشرعن بها مجازر لا تُشبه المجازر، بل تُشبه النشيد الوطني بصيغة جنائزية.
يقول أنطونيو غرامشي:
*“الهيمنة لا تتحقق بالعنف وحده، بل بالموافقة الصامتة للمقهورين.”*
وهذه الموافقة هي ما تفعله الجبهة الإسلامية كل يوم، حين تحوّل المواطن إلى *“متلقٍ*”، ثم إلى *“مُبرِّر”*، ثم إلى *“جلّاد”*، باسم الدولة أو الدين أو القبيلة.
أما الذين يجغمون بالفعل، فهم ليسوا على الجبهات، بل في *البنوك*، في *دبي*، في *أنقرة*، في *الدوحة*، وفي *القاهرة*.
*يجغمون العقود، والشركات، والذهب، والمستقبل.*
يحرقون البلاد، ثم يتهمون المواطن بأنه لم *“يبلّ بما فيه الكفاية”*.
هل هذا وطنٌ أم مسرح عمليات؟
هل هذه حربٌ أم إعادة تموضع للجبهة تحت رايات جديدة؟
*هل ما زلنا بشرًا، أم مجرّد وقود بين “الجَغِم والبلّ”؟*
لكننا نعرف.
نعرف أن الجبهة لا تحارب لتنتصر، بل لتحكم.
وأن المواطن لا يموت فقط، بل يُعاد إنتاجه كأداة للقتل.
نعرف أن *“الجَغِم”* صار مصيرًا، و *”البلّ”* صار عقيدة.
لكننا، رغم كل شيء، نعرف.
*ومن يعرف، لا ينجو بالمعرفة… بل يُساق بها إلى النفي.*
أشد أنواع الغسيل دموية، ليس ذاك الذي يُبيّض القميص، بل الذي يُغطّي الجريمة بلون الراية.
وحين تتدفق الأكاذيب من الشاشات إلى الدماغ، *يتحوّل المواطن إلى جندي دون أن يرتدي الزي العسكري.*
يضحّي بابنه، ويصفّق لمن نهب راتبه، ويقولها دون تفكير:
*“بلّ بس… نحنا في معركة وجود وكرامة.”*
تستعيد ذاكرتنا نموذج *سيراليون*، حيث تحوّل الأطفال إلى قتلة باسم “الوطن”.
تقول الباحثة الكندية نومي كلاين:
*“حين يُعاد تعريف العنف كضرورة أخلاقية، تنهار البنية النفسية للإنسان، ويصبح القتل فعلَ طمأنينة.”*
وهذا ما نراه:
مواطنون يتعاملون مع الحرب كأنها زواج مقدّس، ومع الموت كأنه استثمار مضمون في سوق الوطنية.
في *“الخوي والنهود”*، لم يعد الناس يتساءلون عمّن هو على حق، بل عمّن لا يزال على قيد الحياة.
في *“دنقلا وكسلا”*، لا يُسأل الأب عن حلم ابنه، بل عن موقعه على الخارطة:
*في الجيش؟ في الدعم؟ أم في المقابر؟*
*السودان اليوم ليس بلدًا، بل سجن مفتوح يدور فيه الحارس والضحية في حلقة “بلّ وجَغِم”، بين رصاصتين، ورايتين، وبيانين.*
نحن الذين كُتب علينا أن نعيش بين *“الجَغِم والبلّ”*، لا نملك حتى *ترف الصمت.*
لأن الصمت نفسه صار *مشاركة في الجريمة.*
لأن *“البلّ”* اليوم يعني أنك قبلت أن تُمحى،
و *”الجَغِم”* يعني أنك صرت جزءًا من ماكينة المحو.
*وحدهم الذين لا يبلّون ولا يجغمون، من يكتبون بأجسادهم معنى الوطن.*
أما الباقون، فقد اختاروا شكلهم في الجنازة: *بين قاتلٍ يبتسم، ومبرّرٍ يبرّر، وجثةٍ تصفّق في الغياب.*