رأي

منال علي: دون كيشوت طار ودق ظار

بقلم: منال علي محمود

 manal002002@gmail.com

تخيّل فقط لو كان بول كاغامي على رأس دولتنا.

الرجل الذي نهض برواندا من رماد الإبادة الجماعية، لم يفعل ذلك بالبندقية وحدها، بل أعاد بناء مؤسسات الدولة من جذورها، وعلى رأسها القضاء. أصلحه وجعله عمود الفصل لا أداة البطش. أنشأ محاكم غاشاشا، وأعاد للمواطن شعوره بأن القانون وُجد لأجله لا ضده. استعان بالقضاء كحل سياسي، لا كحطب يوقد به نار الخصومات.

أما نحن، فلنا قضاء آخر.

قضاء لا يرى إلا بعين الحاكم، ولا يتحرك إلا حتى تاتيه الأوامر من (دولة رجال في حياة قرناص العميقة)، الدولة العميقة التي تسيّر كل شيء خلف الكواليس. قضاء صار دوره الأكبر التنكيل بخصوم دون كي شوت، يصطنع لهم أعداءً من سراب، ويعلن الحرب على طواحين الهواء، ثم يخط بيان نصر وهمي على ورق الدولة.

حتى في قضية استهداف (دويلة الشر) كما يسمونها، فشل القضاء الذي توهّم أنه وحده في ساحة القتال. لم يعرف كيف تُخاطب جهة ذات سيادة، ولا متى ترفَع الدعوى، ولا أمام من. فتعثرت قضيته، وتحولت إلى فاتورة بلادة سياسية ندفعها نحن، بينما يخرج أصحابها من الباب الخلفي.

الغباء طرق الباب الخطأ، وكتب العنوان في غير موضعه.

 

أي خصومة، سواء كانت شخصية أم دولية، يمكن أن تتحول إلى قرار رسمي: منع تجديد جواز، حظر سفر، إلغاء عرف دبلوماسي، واستبدال اسم دولة بدويلة من نزق شخصي أو تنظيمي.

قضاء يقاتل من أجل أفراد، لا من أجل القانون.

وأي قانون هذا، إذا كانت أفواه من يُفترض أنهم حماته ممتلئة بالدقيق، بينما اذانهم مفتوحة لتعليمات فوقية، تصدر من رحمٍ لا يكف عن التفريخ،

رحمٌ كلما خمد، أنجب خصومة جديدة، وأوهام سلطة، وتعيينات مدهونة بولاء لا بكفاءة.

حتى غدا القضاة يُنتقون كما تختار أوراق اللعب في طاولة استبداد، لا في ميدان عدالة.

وهنا السؤال ليس: من سمح بهذا؟

بل: أين الدستور؟ من يحميه؟ من يملك الحق في تعطيل بنوده؟

من أجاز أن تطوَى السيادة في حقيبة خصومة، وتحلّ دويلة محل دولة؟

كيف تُدار بلد بلا مرجعية دستورية، يعاد فيها تعريف (القانون) كل صباح، بحسب درجة القرب من الدائرة الحاكمة؟

غياب الدستور هو الفخ الأكبر الذي يدفع ثمنه من يحمل السلاح في هذا الوطن. الرقيب أيوب نورين موسى، الذي دافع تحت علم هذا البلد، وقف عاجزًا يشاهد جرافة تهدم منزله في شرق النيل بحجة (قانون الوجوه الغريبة) ، وهو يصرخ بأنّه من أبناء الوطن ذاته، لكنه يُعامل كغريب في وطنه. لم يسمع صوته أحد، لأن القانون لا يطبق إلا على الضعفاء والمواطنين العاديين.

وكذلك العقيد في القوات المشتركة، الذي عاد من الجبهات ليجد أهله مذبوحين في الكنابي، ليس لخطئهم، بل لأنهم من هناك. بكى وصرخ: اعفوا لينا… ما قدرنا نحميكم. هذه الكلمات تعكس عمق الخيانة وعجز الدولة، وتكشف عن الواقع المرير الذي يعيشه من يُفترض بهم حراسة الوطن.

نحن لا نطالب بالمثالية، بل بالأصل.

بالدستور، لا كوثيقة محفوظة في الأدراج، بل كعقد اجتماعي حيّ، ينظم شؤون الدولة، ويكبح جماح السلطة، ويحمي الضعفاء من نزق الأقوياء.

لكن لماذا نصرخ من أجل قضاء مستقل؟

لأن الدولة التي تمتلك قضاءً حرا، لا تُنتج فقط أحكامًا نزيهة، بل تُنتج شعبا واعيا.

شعبٌ لا يعيش على هامش القانون، بل يقف في متنه.

يعرف متى يطالب، ومتى يرفض، ومتى يرفع صوته دون خوف من سوط، أو استدعاء، أو قرار يهبط من فوق.

فحين يكون القاضي حرا، يصبح المواطن حرًا.

وحين تُفصل العدالة عن الهوى، تُعاد اللحمة بين الناس والدولة.

وقتها، لا يُولد المواطن خائفًا، ولا يكبر باحثًا عن واسطة، ولا يموت وهو ينتظر اعتذارًا من يد ظالمة.

تخيّل مرة أخرى لو أن من يُناط بهم إنفاذ الدستور، رجال دولة بحق، لا ذكور او وكلاء خصومات.

رجال يعرفون أن خصومتهم لا تمنحهم الحق في هدم مؤسسة، ولا تعليق قانون، ولا تبديل مفاهيم الدولة برغباتهم الشخصية.

عندها فقط، يمكن أن نحلم بدولة، لا دويلة.

بدستور، لا تعليمات.

بعدالة، لا استهداف.

بوطن لا يدار من رحم الخصومة، بل من قلب المسؤولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!