
في قلب السودان، حيث تتفاقم الأزمات وتتوالى النكبات، يواجه شعب الخرطوم اليوم عدوًا صامتًا وفتاكًا يهدد بابتلاع ما تبقى من أرواحهم: وباء الكوليرا. إنها ليست مجرد أزمة صحية، بل هي شهادة دامغة على غياب المسؤولية، وعدم الكفاءة، والخبرة العملية المعدومة، وغياب الضمير الإنساني في هيكلة وزارة الصحة بولاية الخرطوم، التي يبدو أنها دخلت في غيبوبة تامة، بينما يلفظ الأبرياء أنفاسهم الأخيرة.
وزارة في سبات عميق .. وشعب يئن تحت وطأة الوباء
منذ أشهر، كانت التحذيرات تتوالى، والتقارير تشير إلى ظهور حالات كوليرا في مستشفى التركي بالخرطوم. لكن وزارة الصحة، التي كان من المفترض أن تكون خط الدفاع الأول، آثرت الصمت أو الانشغال بـ”السياسة” على حساب “المهنية”. لقد غابت الرؤية، وتلاشت اااالخطط، وتبخرت “الخارطة الصحية” التي كان يجب أن ترسم مسار بناء وتطوير نظام صحي عالمي قادر على مواكبة الأوبئة والكوارث.
اليوم، لم تعد الأزمة مجرد تحذير ينذر بالخطر، بل أصبحت كارثة إنسانية حقيقية خارجة عن السيطرة. لقد أدت حالة الانهيار التام للمنشآت الصحية والأضرار الناجمة عن الحرب إلى بيئة مثالية لتفشي العدوى. الكوليرا، هذا المرض المعوي الحاد الذي ينتشر عبر الطعام والماء الملوثين ببكتيريا ضمة الكوليرا، أصبح أكثر تواترًا وضراوة، يحصد الأرواح بلا رحمة. بالإضافة إلى باقي الأمراض الأخري كالملاريا وأمراض الكلي وحمة الضنك
أرقام صادمة .. وصور لا تُصدق
الأرقام تتحدث عن نفسها، وبصوت عالٍ يمزق صمت الإهمال: عدد الوفيات اليومي يتراوح بين 70 إلى 90 وفاة في المستشفيات وأماكن العزل. مستشفى النو، مستشفى أم درمان، ومركز عزل أمبدة… كلها تشهد على هذا الواقع المرير.
تخيل المشهد: مرضى يتلقون العلاج على الأرض، في العربات، وحتى في “الركشات” الطرقاااات. أدوية شحيحة، وأصوات الأنين تملأ الأجواء. وفي قلب هذا الجحيم، يقف الكادر الطبي، الأبطال المجهولون، يواجهون الموت كل لحظة. والأدهى من ذلك، أنهم حُرموا من أبسط حقوقهم: لقاح الكوليرا! لقد أصبحوا هم أنفسهم عرضة للإصابة بالمرض، في ظل إهمال فاضح يلامس حدود الجريمة الإنسانية
صرخة في وجه الضمير الغائب
إن ما يحدث في الخرطوم ليس مجرد فشل إداري، بل هو انهيار أخلاقي وإنساني. كيف يمكن لوزارة مسؤولة عن صحة وحياة المواطنين أن تقف عاجزة، أو بالأحرى، أن تغض الطرف عن كارثة تتكشف فصولها أمام أعين الجميع؟ أين الكفاءة؟ أين التخطيط؟ أين الضمير الإنساني الذي يجب أن يكون بوصلة أي مسؤول في هذا القطاع الحيوي؟
لقد حان الوقت لصرخة مداوية توقظ الغافلين، الغير مدركين لأهمية وقيمة الإنسان . إن حياة الشعب السوداني ليست رخيصة، و صمودهم الأسطوري لا يجب أن يُقابل بهذا الإهمال القاتل. يجب على كل من له ضمير أن يتحرك، قبل أن تتحول ولاية الخرطوم إلى مقبرة جماعية، وقبل أن يبتلع وباء الكوليرا ما تبقى من أمل في هذا الوطن الجريح.