
حقًا، شرُّ البليّة ما يُضحك، وقد أضحكني خبرٌ نشرته أمس وكالة السودان للأنباء الرسمية (سونا)، عن شركة سودانية مغمورة، أجزم يقينًا أن أحدًا لم يسمع بها، لا في السودان ولا خارجه، تحمل اسم “بايو سلكس”، وهي، على الأرجح، كيان وهمي من نسج خيال سلطة الحرب والكذب.
وقد أُرفق بالخبر صورة لشابٍ على أنه صاحب الشركة ومديرها، يجلس خلف مكتبٍ متداعٍ، مهمل، بالغ التواضع، تعلوه آثار الإهمال، وأمامه عُلبٌ زجاجية (برطمانات) تُشبه تلك التي تعبّئها النساء بالعطور المحلية الفلكلورية. وبينما تُمطرنا الصورة برماد العبث، يتصدّر عنوان الخبر ومتنُه واجهة الوكالة التي انحدر أداؤها إلى أسفل الدركات، حتى باتت لا تخجل من بثّ الأكاذيب جهارًا نهارًا، غير آبهة بمهنية المهنة ولا بلوم لائم:
(شركة في القضارف تصدّر 350 ألف طن من الصمغ العربي)!
ما هذا الكذب الفاضح غير المُحتشم!
ثلاثمائة وخمسون ألف طن في عامٍ واحد؟! بينما لا يتجاوز الإنتاج العالمي للصمغ العربي، في عامٍ كامل، 120 ألف طن، بقيمة لا تتعدى 1.1 مليار دولار!
لم يتعدَّ إنتاج السودان، الذي يُنتج وحده 70% من هذه الكمية – في أفضل الظروف، وقبل اندلاع الحرب – ما بين 70 إلى 80 ألف طن في العام.
فبأي عقلٍ، وبأي منطق، تقفز ولاية واحدة، لا تُعرف أصلًا بأنها مركز لهذا المحصول، لتنتج وحدها ثلاثة أضعاف ما يُنتجه العالم بأسره؟!
الأدهى، والأكثر مدعاةً للسخرية كما الأسى، أن تفوق إيرادات صمغ شركة “القضارف” – التي لم أجد لها أثرًا في بورصات نيويورك، ناسداك، طوكيو، لندن، أو شنغهاي – حاجز المنطق والواقع، إذ تُفيد هذه الحسبة العرجاء أن صادراتها تجاوزت 3.3 مليار دولار!
أي ما يزيد عن ضعف صادرات الذهب، التي لم تتجاوز 1.5 مليار دولار في العام الماضي، بحسب بيانات شركة الموارد المعدنية!
هكذا، بقدرةِ قادر، برزت من رحم سودان البرهان والكيزان شركةٌ عجيبة، تفوق في خراجها ما يخرج من رحم جيشهم في تناسله الميليشيوي الولود!
لقد بلغ قوم جبريل والبرهان مرحلةً من الكذب الوقح المصحوب بانعدام الحياء، لم يبلغها أحدٌ من قبلهم، لا في هذا الزمان، ولا فيما مضى.
فما الضرورة، وما الداعي لاختلاق قصة عبثية عن شركة مغمورة في القضارف؟
الولاية المعروفة بزراعة الذرة، والسمسم، وزهرة الشمس، لا بالصمغ العربي، الذي لا يُذكر إنتاجها منه إلا على استحياء، إذا ما قورن بالحزام الشاسع للصمغ، الممتد في مناطق كردفان ودارفور والنيل الأزرق، وهي الآن، كلها، خارج دائرة الإنتاج بسبب الحرب.
إن الكذب لا يوقف حربًا، ولا يحلّ أزمةً، ولا يُطعم جائعًا.
لن يُنقذ هذا العبث البلاد من أزماتها الاقتصادية والمالية، ولن يُطفئ نيران المجاعة الطاحنة، ولا يُوقف زحف الأوبئة التي تجتاح الأرض وتنهش العباد.
لكنّ البرهان ووزير ماليته، ذلك الفاسد السمج، ثقيل الظل والميزان، لا يزالان يُنكران وجود الأزمة أصلًا، ويستندان إلى إعلامٍ بائس، يقوده جاهلٌ مهووس اسمه “الإعيسر”، ويملؤه صحافيو الرشى التافهة، تلك التي لا تسدّ رمقًا ولا تُقيم أودًا.
وإلى جانبهم، المرتزقة، ومليشيات الكيزان المتوحشة الإرهابية… جميعهم أساءوا إلى ما تبقّى من سمعة السودان، حتى سقطت إلى القاع، واندثرت تحت ركام الحرب، بما فيها من قتلٍ عشوائي، ونهب، وسرقات، وعنصرية بغيضة، وشتائم سوقية، وأخلاقٍ منحطّة، لا تليق بدولة ولا بشعب.
إنهم فسدة، ولصوص، وأغبياء، وكسالى، حتى في إنتاج وصناعة الكذب!