
لا يزال كثير من الفاعلين السياسيين والاكاديميين والناشطين والإعلاميين والخبراء الغير استراتيجيين يرددون ذات الشعارات وخطابات النخب التي أدمنت الفشل بسبب تأكل مشاريعها السياسية التي أوصلتنا إلى انهيار ما أطلقت عليه جزافا الدولة الوطنية. فالتي انهارت ، لم تكن دولة ولم تكن وطنيه ولم تكن يوما واحدا ديمقراطية لقد أوصلتنا سياسات النخب المهيمنة التي لم تستند يوما على شرعيه عقديه مستمدة من شعوب السودان كافه منذ نيل البلاد استقلالها (الشكلي)، إلى التشرذم والتشظي المجتمعي والجهوي والمناطقي والأيديولوجي، بسبب الإصرار على عدم إشراك (الآخرين) في إدارة شؤون البلاد، أو حتى إدارة شؤون مجتمعاتهم، مما أدى لتوسيع الهوة بين المدارس الفكرية والتيارات السياسية والاقتصادية والمكونات الاجتماعية والثقافية المتنوعة والمتعددة. إن أكبر إخفاقات حكومات الدولة المسماة جزافًا وطنيه، هو استمرارها في سياسات المعالجات الأمنية لثورات واحتجاجات الريف السوداني المرتبطة بقضايا حقوق المجتمعات المبعدة والمقصية ومطالبهم المشروعة.
أن سياسات الهيمنة على القرار السياسي الداخلي والتحالفات الاقتصادية والأمنية الخارجية، واحتكار الموارد وحرمان غالبية شعوب السودان حتى من عائدات موارد أقاليمهم وتوطين الفقر، وتخريب اقتصاديات الريف وهتك النسيج الاجتماعي بين مكونات غالبية مجتمعات الريف والأطراف القصية، حتى في ظل ما كانوا يسمونه حكومات ديمقراطية منتخبه هو ما أدى إلى الفشل الكلى وانهيار وتفكك حاكورة النخبة السياسية الحاكمة بوضع اليد.
فكل هذه الانهيارات المتسارعة المؤسسات الحاكورة الأمنية منها والمدنية لم يبدأ مع الحرب، بل بسبب التآكل الداخلي والفشل في إدارة التعدد والتنوع، وهو مربط فرس الأزمة الوطنية في السودان. فاحتكار الفضاء العام بسرديات منبته ومصنوعه لا تمت للبعد الحضاري للسودان، وأيديولوجيات مستجلبة وفرض ثقافة مكون اجتماعي واحد وإبعاد باقي المكونات الثقافية الأخرى، بل والسخرية منها وازدرائها وتحقيرها، كانت وما تزال تقود البلاد من فشل إلى فشل. فكل محفوظات النخب وخطابها السياسي وأيديولوجياتها لا علاقة لها بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب السودانية. فالنخب المهيمنة والتي فقدت مشروعيتها فكل حكوماتهم المتعاقبة لم تكن وظيفية مهمتها خدمة الشعوب، ولا ديمقراطية حقيقيه عملت على إشراك الشعوب في حكم انفسهم، ولم تقم بتطوير اقتصاديات تساهم في تقسيم عادل للثروات والموارد والخدمات، ولا سياسات ثقافية تعكس تعدد وتنوع الثقافات السودانية بأبعادها الحضارية لتؤسس لهوية قومية جامعه تعبر عن الذات السودانية. بل قد لا أكون مبالغا أن قلت أن هذه النخب افتقدت الحساسية تجاه تطورات الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد الذي تركها خلفه لاهثه تلعق في خطابها المتآكل وأطروحاتها الباليه المهترئة وشعاراتها التي
لم تعد تعبر إلا عن شلليات وبيوتات واسر ونوجستاليا الزمن الجميل. من أخطر تمظهرات المحفوظات القديمة هو إنتاجها السرديه واحده في كافة المجالات، وحراستها بالزاجرين الاكاديميين والفاعلين وصناع الرأي واحتكارها المفهوم المواطنة وقيم الوطنية ورفض أية سرديات أخرى تتقاطع مع القديمة مهما كانت موضوعيتها وكثرة من تعبر عنهم أو قلتهم.
فالسردية القديمة المحروسة بحرسها القديم، وحلفائهم المعاد إنتاجهم عبر التلقين والتدجين، والتي يغطيها أصحابها “بعويش” الشعارات الطنانة كإضفاء توصيفات كالوطنية والقومية، وبإسقاط نظريات العلوم السياسية والاجتماعية وتوصيف الحاكورة المملوكة لقله تتوارثها جيلا بعد جيل، بالدولة الوطنية!!
فمحاولات كل الزاجرين والأكاديميين والناشطين والفاعلين هو شرعنة الاحتكار وفرضه بالقوة، عبر شيطنة الآخر المختلف وإقصاء ذاكرته التاريخية وثقافته وتاريخه وإسهاماته ووصفه بأبشع الأوصاف. فكل ثائر على حاكورة الامتيازات المنهوبة بوضع اليد، كافر، متمرد، عميل، وأجنبي تفرعت هذه السردية من أيديولوجيا النقاء العرقي وسمو الثقافة المفترضة من أهل الحاكورة، والتي لا تقبل حتى النقد والإشارات إلى مكامن الاختلالات التي أدت إلى هذا الفشل الذريع والتدخلات الأجنبية الوقحة في شؤون السودان. وواحدة من اكثر وجوه السردية الفاشلة، هو رميها لسوءاتها على الآخرين. والذي نرى آخر تمظهراته في السراب الوطن بمجمله من بين أيدينا بسبب الاحتكار والمحتكرين وتعنت أصحاب المحفوظات (الوطنية) وعدم الاعتراف بشركاء الوطن.
ختامًا، نقول للزاجرين والمحتكرين للصواب والحلول والمصرين على لواكة ذات الشعارات لإعادة إنتاج الفشل بترميم مشاريع الاحتكارات، ورفع شعارات الإصلاح، التي أوردت بلادنا موارد التهلكة وتهتكات النسيج الاجتماعي وعودة شبح الانقسامات الذي يطل بعنف نتيجة انتهاكات الأطراف المتصارعة نقول للزاجرين أن يكفوا عن الصراخ والهتافات بوجه كل من يطالب بالتغيير الحقيقي المفضي لتحقيق شعارات جميع الثوار في كل الجغرافيا السودانية لتأسيس وطن للجميع يعكس التعدد والتنوع ويخدم مصالح جميع الكيانات الاجتماعية المكونة للوطن السوداني. فالأزمة الوطنية صارت واضحه وضوحالشمس وهى تكمن في الفشل في إدارة التعدد والتنوع وكل مبادرة أو مشروع وطني لا يشمل الجميع ولا يشارك فيه الجميع لن يكون حلا للازمة الوطنية.
في حالة تمسك أهل المحفوظات والسردية القديمة بسرديتهم وإصرارهم على التعامل مع الوطن بمفهوم الحاكورة التي يسمونها دوله، وهي خاصة بهم، فلا يلومن إلا أنفسهم عندما ينسحب الآخرين مثلما فعل الجنوبيون ويشرعوا في تكوين أوطانهم التي تكون أوطانا حقيقيه لهم.
فارس موسى / خبير فض النزاعات وناشط حقوفي *