رأي

الحرب في السودان: فاقدة للمشروعية الأخلاقية والإنسانية؛ صالح السليمي

صالح السليمي

في زمن الفواجع الكبرى، حين يعلو صليل السلاح على همس العقل، يصبح من الجسارة أن تقول: هذه الحرب لا مشروعية لها. يصبح الصوت الذي ينادي بالسلام غريباً، منبوذاً، متهماً بالخيانة، فيما يتسيد المشهد خطباء الدم ومروجو الثأر، ويُرفع القتل إلى مرتبة البطولة، وتُسبغ على الخراب أوصاف المجد.

لكن الحقيقة، مهما حاصرتها الرصاصات، لا تموت. والحقيقة أن هذه الحرب التي تمزق السودان اليوم، ليست سوى فصلاً دامياً في مأساة وطن اختُطِف من أبنائه، ومُزِّق على مائدة الأطماع، ودُفع إلى الجحيم باسم الكرامة والعدل والانتقام.

يتشدق البعض بأنها حرب الكرامة. فأي كرامة تُبنى على أنقاض البيوت المهدمة، وجثث الشيوخ والنساء والأطفال؟ وأي كرامة في أن يُهجّر الملايين من ديارهم، ويُجَوّع الناس، وتُقطع الطرق، وتُدمّر المدن؟ الكرامة الحقة لا تُنال بإذلال الآخرين، ولا تُنتزع بالسلاح، بل تُصان بالعدل، وتُبنى بالرحمة، وتُسترد بالحكمة. ما يُرتكب باسم الكرامة اليوم، هو في حقيقته امتهان لها، وتشويه لما تعنيه من عزة وسموّ.

ثم هناك من يُبرر استمرار الحرب على أنها ثأر لكرامة جُرحت، أو لخيانة وقعت. لكن الثأر ليس عدالة، بل هو مرآة مكسورة للعدالة، يعيد إنتاج الكراهية ولا يطهر منها. الثأر يعيدنا إلى جاهلية العصبية، إلى غابة تُحكم بالشهوة والغضب لا بالقانون والضمير. لقد جاء الدين ليوقف دوامة الدم، لا ليؤججها، وليعلّم الإنسان كظم الغيظ لا الانفجار في وجه أخيه. العفو شجاعة، والتجاوز حكمة، والغفران طريق إلى إنقاذ ما تبقى من إنسانية هذا الوطن الجريح.

ويقولون إنها حرب لدفع الضرر. لكن الحرب ذاتها باتت هي الضرر الأكبر، هي الضرر المتجسد في كل مظهر من مظاهر الخراب. كيف يُدفع الضرر بفتح أبواب الجحيم على الناس؟ كيف يُدفع والناس تموت جوعاً، وتُقصف في منازلها، وتُشرّد من قراها ومدنها؟ لا شرع ولا عقل يقبل هذا المنطق الأعوج، ولا دين يُجيز تهلكة الأمة باسم الوقاية من خطر.

ثم إن هذه الحرب فقدت حتى آخر خيط من المشروعية الأخلاقية. لم تعد حرباً بين جنود في ميادين معرّفة، بل أصبحت فصلاً مفتوحاً من المآسي اليومية، نهب، حصار، تجويع، قصف عشوائي، إهانة ممنهجة للكرامة الإنسانية. لم يعد هناك من فارق بين ما هو عسكري وما هو مدني، بين الجبهة والشارع، بين الجندي والطفل. لقد سقط القناع، وانهارت كل الأعذار.

وإن كانت الأخلاق قد انسحبت من مشهد الحرب، فإن الإنسانية أيضاً وقفت عاجزة أمام طوفان الجنون. هذه حرب لا يُبنى فيها شيء، بل يُهدم فيها كل شيء: الأجساد، البيوت، الأحلام، القيم. لا التوراة تقبل هذا، ولا الإنجيل، ولا القرآن. كلها أجمعت على أن قتل النفس بغير حق هو قتل للعالم بأسره. أن تكون إنساناً يعني أن ترفض الظلم حتى لو حمل شكله القانون، وتدينه حتى لو لف نفسه براية الوطن.

ولأن الحروب لا تكتفي بالقتل، فإنها أيضاً تُدمر النسيج الاجتماعي والثقافي. لقد مزقت هذه الحرب جسد المجتمع، فرّقت بين الجيران، عمّقت العصبيات، أيقظت الفتن. مدارس أُغلقت، جامعات تعطلت، أغاني سكتت، أشعار لم تُكمل، كُتّاب هاجروا، فكر جُرف تحت أنقاض المباني المحروقة. إنها حرب لا تقتل الإنسان فقط، بل تقتل معانيه، ذاكرته، روحه، وتاريخه.

أما من حيث الفلسفة والعقل، فإن ما يحدث لا يمت إلى أي مشروع عقلاني بصلة. هذه ليست دولة تدافع عن نفسها، ولا سلطة تسعى لحماية مواطنيها، بل مشهد سريالي تُدار فيه المعركة بلا أهداف واضحة، بلا رؤية، بلا أخلاق. الفلسفة، التي طالما نادت بالحوار والعقد الاجتماعي، تقف الآن مذهولة أمام عبث يُدار باسم الوطن ولا علاقة له إلا بخرابه.

وفي النهاية، لا بد أن يُقال بوضوح: الاستمرار في هذه الحرب لا يفضي إلى نصر، ولا إلى استقرار، بل إلى خراب أكبر، وإلى تفكك لا قاع له. إنه مشروع عبثي بكل ما تعنيه الكلمة. صراع بين أطراف لم يعد أحدٌ منهم قادراً على تمثيل الشعب، ولا على صياغة مستقبل له. وطننا يُذبح لا من أجل قيم، بل من أجل مكاسب ضيقة، ومن يحرق الأرض ليحكمها، لا يستحقها.

لقد آن أن نرفع راية السلام، لا عن ضعف، بل عن وعي. آن أن نستمع إلى صوت الكتب السماوية التي نادت بالرحمة، إلى وصايا الأنبياء الذين دعوا إلى الصفح، إلى ضميرنا الجمعي الذي يقول إن الدم السوداني أغلى من كل الكراسي.

السلام ليس شعاراً؛ إنه مشروع شفاء، مشروع وطن، مشروع خلاص. وليكن أول طوبه فيه، كلمة صادقة تقال في وجه آلة الحرب: كفى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!