رأي

د. النور حمد: حكمة بالغة فما تغني النذر

بظهورها في عقد الثمانينات من القرن الماضي قلبت نظرية “الذكاءات المتعددة” لمطورها البروفيسور هوارد غاردنر من جامعة هارفارد الشهيرة، انكشف قصور مقياس ذكاء الأفراد المسمى آي كيو IQ. أثبت هوارد غاردنر عبر عشرين عاما من الأبحاث ان البشر يتقاسمون ثمانية أنواع من الذكاء، لكنهم لا يتقاسمونها جميعها على قدم المساواة. فليس هناك من الافراد من يملك الذكاءات الثمانية كلها، وإنما يملك كل فرد بشري بضعا منها. وهذا هو ما يجعل بعض الناس يبرزون في المجالات العلمية، في حين يبرز بعض آخر في المجالات الأدبية، وبعض ثالث في المجالات الفنية، وآخرون في المحالات الرياضية، … إلخ. وبناء على نظرية غاردنر التي وجدت قبولا واسعا في مجال العلوم التربوية، اتضح أن مقياس آي كيو IQ لا يقبس في حقيقة الأمر كامل طيف الذكاء وإنما يقيس بعض أنماطه. ولذلك فإن كثيرين ممن جرى تصنيفهم بأنهم من ذوي الذكاء المنخفض قد صنفوا كذلك بسبب محدودية المقياس وليس بسبب تدني درجة الذكاء لديهم، وكذلك لأن المناهج الدراسية لا تخاطب سوى بضعة من أنواع الذكاء التي لا بتقاسم امتلاكها كل الطلاب. فكثيرون قد لفظتهم المدارس والجامعات لا بسبب تدني درجة الذكاء لديهم وإنما بسبب قصور مناهج التعليم والطرق التي جرى بها تصميم المناهج. فلو حدث التعرف على نوع الذكاء التي يملكها كل طالب منذ البداية لجرى تصميم المناهج بصورة مختلفة ولما جرى وضع الطلاب جميعهم في مسار تعليمي واحد.

اتساع مباحث الذكاء

لكن، برز بعد فترة من ظهور نظرية هوارد غاردنر، وعلى وجه التحديد في منتصف تسعينات القرن الماضي دانيال قولمان بنمط من أنماط الذكاء أسماه “الذكاء العاطفي”، ولا ينكر قولمان أهمية مقياس IQ ولكنه يرى أن الذكاء العاطفي الذي يرمز إليه ب EQ أكثر أهمية للنجاح في الحياة العامة وفي التحكم في المشاعر وفي إدارة العلاقة مع الأفراد الآخرين بصورة جيدة ومن ثم في حل النزاعات. ولم تمر خمس سنوات حتى جاء الباحثان البريطانيان زوهار ومارشال في مطلع هذا القرن بنظرية الذكاء الروحاني الذي رمزوا له ب SQ وهو الاختصار لما أسمياه Spiritual Intelligence. وما يهمني في هذه المقالة هو ربط هذا النمط من انماط الذكاء بما يجري في بلادنا حاليا. وفي تقديري الشخصي أن الذكاء العاطفي يندرج تحت مظلة الذكاء الروحاني. ويعرف زوهار ومارشال الذكاء الروحاني بأنه القدرة على التعامل مع الأسئلة الجوهرية في الحياة مثال: من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ ما معنى الحياة؟ إلى جانب القدرة على التصرف وفقًا لقيم عميقة ومبادئ روحية تتجاوز المصلحة الشخصية. ومن أهم خصائص الذكاء الروحاني حسب زوهار ومارشال: القدرة على التأمل الوجودي (Existential Reflection). والعيش وفقًا لرؤية ورسالة شخصية ذات مغزى.وأيضا، هو ما يمنح صاحبه المرونة النفسية والقدرة على التكيف مع التغيير. كما أنه هو ما يجعل ممتلكه متسما بخاصية التراحم والتعاطف والارتباط بالآخرين، وبميزة التكامل بين العقل والقلب والروح. فالذكاء الروحاني يساعد الفرد

على العيش بسلام داخلي. كما يُمكّنه من اتخاذ قرارات أخلاقية ذات معنى. إضافة إلى أنه يدعمه، أيضا، في مواجهة الأزمات بتماسك داخلي يحقق له التوازن بين الجوانب المادية والروحية.

حقبة الحداثة والذكاء الروحاني

لقد أضرت حقبة الحداثة التي تأسست على العلموية المادية الغربية بالذكاء الروحاني أيما ضرر. فالعلموية الغربية بفكرها الذي أنتج النظام الرأسمالي وبعلم النفس الذي انبثق منها اتجهت نحز تعميق الأنانية والفردانية. وقد توج ذلك التوجه توماس هوبز بمقولته الشهيرة: “الإنسان ذئب الإنسان”.  هذا المنحى، من وجهة نظري، علموي إلحادي وإن تمسح بالدين. فهو نقيض لجوهر الأديان الذي تسعى تعاليمه ومناهجه إلى تنمية روح التعاون والتعاطف والمسالمة والمحبة. لكن، هذه العلموية المادية الإلحادية لها نظير يشابهها داخل بنية الأديان. ويمثل الإسلام السياسي بوجهيه الإخواني والوهابي هذا المنحى المادي الإلحادي، او قل هذا المنحى اللاروحاني المتدثر بدثار الدين، في حين أنه ليس من الدين في شيء. فالحرب الجارية الآن في السودان هي نتيجة لهذه النزعة المادية الإلحادية المتدثرة بدثار الدين زورا وبهتانا. فمبعث هذه الحرب أن الفريق البرهان يريد أن يحقق رؤيا والده التي رآه فيها حاكما للسودان كما ذكر ذلك هو في أول لقاء تلفزيوني له عقب حصوله على منصب رئيس مجلس السيادة. أراد الفريق البرهان أن يحقق تلك الرؤيا المنامية التي وافقت هواه الشخصي ونزعته التسلطية وفتونه بنفسه وعبوديته للسلطة والمال، ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد وفناء أهلها. ومن الجهة الأخرى، لم يعترف الإخوان المسلمون بأن هناك ثورة قد قامت أصلا ضد طغيانهم وفسادهم وسوء إدارتهم للبلاد. فهم يرون أنهم الأحق باحتكار السلطة والثروة إلى يوم الدين. أكثر من ذلك، هم يريدون استعادة تلك الوضعية المتسمة بالظلم والجور المطلق، ولو ادى ذلك إلى حريق البلاد وأهلها؛ “يا سودان بي فهمنا يا ما في سودان”. توافقت رغبة البرهان و”الكيزان” في القضاء على الثورة. فتحالفا، رغم إضمارهما الغدر ببعضهما، في التآمر عليها عبر عديد الخطوات حتى أشعلا هذه الحرب الكارثية التي تجاوز أمدها العامين ولم تضع اوزارها بعد.

مغالبة الإرادة الإلهية

تتمثل أقوى علامات الغباء الروحاني في عدم القدرة على قراءة مؤشرات الغيب. لم يفهم البرهان والكيزان قط ان الله قد قضى بنزع السلطة منهم. فانخرطوا في مغالبة إرادته الغالبة. فارهقوا أنفسهم وأوردوا بحربهم القذرة هذه البلاد والعباد موارد الهلاك. ومن علامات الغباء الروحاني عدم التعاطف مع عذابات الناس والحرص على تحقيق الهدف مهما كلف. فلو ألقى هؤلاء نظرة فاحصة على التاريخ لعلموا أن ما من نظام طغياني ظالم دام لطاغية. فحين يتأذن الغيب بنزع السلطان من الطاغية تكون العلامات أكثر من واضحة. لكن الغباء الروحاني يعمي أهله من الرؤية. وقديما قال العارف النابلسي: “لا يكن طرفك أعمى عن تناويع الأشاير”. لقد حاول كل من علي عبد الله صالح وبشار الأسد مغالبة الإرادة الإلهية فخربا بلديهما وارهقا شعبيهما ولم ينجحا في الاحتفاظ بالسلطة. وكذلك فعل كل من القذافي وحسني مبارك ولكنهما ايضا فقدا السلطة. غير أنهما لم يكلفا بلديهما وشعبيهما مثلما فعل علي عبد الله صالح والأسد، على تفاوت بينهما. فالقذافي وعلي عبد الله صالح ماتا مقتولين بطريقة بشعة.أما زين العابدين بن علي فقد كان له من الذكاء الروحاني ما جعله يتنحى ويختفي من المشهد، فنجت تونس من العنت. والآن ينخرط عبد الفتاح البرهان المتحالف مع الكيزان في أسوأ صور المغالبة للإرادة القديمة الهادية بلغت درجة اللجوء إلى استخدام السلاح الكيميائي وغيره من الأسلحة المحرمة. غير أن.الفريق البرهان وحلفائه من الكيزان الذين يضمرون الغدر به سوف يهزمون، وسيدفعون الثمن الأفدح في الدنيا والآخرة. ويقع هذا ضمن ما يسميه المتصوفة: “حكم الوقت”، وهو حكم المشيئة الإلهية النافذ على رقاب الطغاة. ولا يدرك حكم الوقت ولا يمتثل لإرادته الغالبة، عن رضا، إلا أهل البصائر والأبصار. فمن فرط خفائه، وصفه العارف الشهرزوري، بقوله: “منتهى الحظ ما تزود منه اللحظ، والمدركون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!