لا دولة بدون ثورة، ولا ثورة مع كامل إدريس- خطاب التواطؤ يُبعث من جديد!
كامل إدريس وخطاب التواطؤ مع الدولة العميقة: قراءة اولية في خطاب الأولويات الوهمية:

في بلدٍ تحترق أطرافه وقلبه، وتُباد مدنه وقراه، ويُذلّ شعبه بين التشريد والقصف والتجويع، يخرج علينا الدكتور كامل إدريس، بوجهٍ بيروقراطي بارد، في خطاب تنصيبه بتاريخ الأول من يونيو 2025، ليعرض أولوياته “الوطنية العاجلة” بوصفه رئيسًا للوزراء، دون أن يجعل من الحرب – التي تواصل إحراق السودان منذ 15 أبريل 2023 – الأولوية الأولى! هذه الحرب التي قتلت، وشرّدت، ودمّرت ما لا يمكن ترميمه دون مشروع وطني جذري، تُعامَل في خطابه كمجرّد عرض جانبي، وكأن البلاد لا تعيش أكبر كارثة إنسانية وسياسية في تاريخها الحديث!
لقد اختار الدكتور إدريس، بوعيٍ كامل، تجاوز السياق الكارثي للحظة التاريخية، فصاغ خطابًا يُكافئ أدوات الحرب لا ضحاياها، ويُعادِل بين الثوار والمليشيات، ويستعير لغة النظام القديم دون أن يرتجف له ضمير. فبدلًا من أن يبدأ بخطاب يُنقذ الأرواح، يوقف الدمار، ويُطلق مسارًا حقيقيًا لبناء سلام عادل، اختار أن يُدشّن ولايته برؤيةٍ أمنية تُعيد إنتاج الدولة القامعة، وتُطبّع مع مشروع السلطة العسكرية والإسلامية الذي ثار عليه الشعب السوداني.
إن تجاهله المتعمّد للحرب بوصفها التجلي لجوهر الأزمة، لا تفصيلاً فيها، ليس خطأً استراتيجياً فحسب، بل خيانة أخلاقية ومعرفية لكل من قضى نحبه في هذه المجازر المفتوحة، ولكل من لا يزال يقاوم من أجل البقاء في مدن الأشباح. فحين يُسقِط كامل إدريس الحرب من رأس قائمة أولوياته، فهو يُسقِط معها معنى الدولة، وجدوى السياسة، ومكانة الإنسان.
من هنا، فإن هذا المقال لا يعرض قراءة تفسيرية لخطاب الرجل، بل محاكمة معرفية وسياسية لرؤيةٍ جوفاء تحاول استئناف الحكم بنفس الأدوات التي فجّرت البلاد. خطاب لا يُجيد سوى الالتفاف على جذور الأزمة، واسترضاء القتلة، وتسويق أوهام “الهيكلة” و”التنمية” و”إعادة الاعمار” في بلدٍ بلا سيادة، بلا عدالة، وبلا عقد اجتماعي جامع.
هل يمكن لمن يتجاهل الحرب، أن يَبني سلاماً؟ هل يمكن لمن يتبنى خطاب الدولة العميقة أن يُعيد بناء الدولة؟ هذا ما سنفككه في السطور القادمة. فما عرضه كامل إدريس لا يعدو كونه محاولة بائسة لتجميل مشهد الانهيار بدعوى الكفاءة الإدارية، دون مساءلة بنية الدولة نفسها، أو مراجعة نموذجها السياسي والاجتماعي والأمني.
وفي ما يلي ملاحظات اولية لتلك النقاط الستة:
١/ الأمن القومي، “هيبة الدولة”، والقضاء على “التمرد”:
يتبنى الدكتور كامل إدريس خطاب الدولة المركزية السلطوية، ويعيد إنتاج مفاهيمها القمعية مثل “الهيبة” و”القضاء على التمرد”، متجاهلاً السياق التاريخي للثورات والحركات المسلحة في السودان، التي نشأت كرد فعل على سياسات التهميش والإقصاء البنيوي. مثل هذا الطرح ينتمي إلى المدرسة القديمة التي تعتبر الدولة فوق الشعب، وتعتبر الأمن غاية لا وسيلة، بينما الحقيقة أن الدولة تُقاس بمدى قدرتها على تمثيل مواطنيها، وليس بقدرتها على قمعهم.
كتب فرانتز فانون: “الذين يُغلقون باب الحوار، يفتحون أبواب البندقية”.”
هذا الخطاب يُعيد توصيف الضحايا بوصفهم متمردين، ويتجاهل الأسباب العميقة للصراع: مركزية السلطة، الاستعلاء الثقافي، قمع التنوع، واحتكار القرار السياسي. إن الهيبة لا تُبنى على الرعب، ولا الأمن يُستعاد بالقمع، بل عبر تأسيس عقد اجتماعي جديد يعترف بكل مكونات المجتمع السوداني. كما أن ما يسميه “القضاء على المليشيات” هو في الحقيقة محو للبنية العسكرية الثورية الموازية التي نشأت كرد فعل على عنف المركز، وليس إنهاءً للعنف بحد ذاته. فالدولة التي تحتكر العنف دون أن تحتكر العدالة تتحول إلى آلة قمع بلا شرعية.
أما عن دولة القانون، فإن إدريس يستند إلى بنية قانونية مختطفة، وقضاء خاضع، ومحكمة دستورية مغيبة، وأجهزة عدلية توظف ضد الثوار لا من أجل العدالة. لا يمكن الحديث عن سيادة القانون في ظل غياب المحاسبة على الجرائم، واستمرار الإفلات من العقاب، والتلاعب بمؤسسات الدولة لخدمة الانقلابيين. القانون في السودان لا يزال أداة للهيمنة، لا آلية للإنصاف.
: ٢/ إدارة الفترة الانتقالية والجهاز الإداري بكفاءة
يتحدث إدريس عن الكفاءة والنجاعة، وكأن أزمة السودان هي أزمة تقنية محض، لا أزمة شرعية ولا أزمة بنية دولة. هذا تبسيط مخادع للأزمة، ويتجاهل أن الجهاز الإداري نفسه هو من أبرز أدوات القهر في تاريخ السودان، صُمم ليخدم المركز ويهمش الأطراف، ويعمل وفق منطق الطاعة لا المساءلة.
إن الجهاز البيروقراطي السوداني نشأ على يد المستعمر، واستُخدم بعد الاستقلال كأداة في يد النخب للسيطرة على الدولة من الأعلى إلى الأسفل. وهو جهاز لم يتم إصلاحه قط، بل جرى توظيفه باستمرار لإدارة العنف البيروقراطي ضد شعوب السودان غير المركزية. أي حديث عن إصلاح إداري يجب أن يمر أولاً عبر تفكيك هذا الجهاز، وتأسيس هياكل بديلة تقوم على التمثيل العادل، والامركزية، والشفافية، والرقابة الشعبية، وتفكيك الامتيازات التاريخية.
الكفاءة بدون عدالة هي تسريع لآلة الظلم. والكفاءة التي لا تعالج الاختلالات الجذرية بين المركز والهامش، هي فقط وسيلة لإعادة تدوير المأساة. والإدارة بدون مساءلة تعني ببساطة ترسيخ البيروقراطية الفاسدة بوجه جديد.
٣/ الاستقرار والأمن والسلام في ربوع الوطن:
يتحدث كامل إدريس عن “الاستقرار” كهدف منعزل عن شروطه الموضوعية: العدالة، التمثيل، المحاسبة، والمساواة. وكأن الاستقرار قيمة مطلقة، لا علاقة لها بمن يُستَقر له، ومن يُستَقر عليه. هذا الخطاب كثيراً ما استُخدم لتبرير قمع الهامش ومصادرة الحريات باسم الحفاظ على الأمن. وهو الخطاب الذي يُفضل الصمت على الحريات، والسكون على الدينامية الثورية، والاستبداد على المخاطرة.
قال نيلسون مانديلا: “السلام الحقيقي لا يتحقق بغياب الحرب فقط، بل بحضور العدالة”.”
الحقيقة أن السودان لم يعرف الحرب إلا عندما تحوّل الاستقرار إلى وسيلة للتهميش، وعندما تم فرض السلام من فوق، دون مشاركة المهمشين المتألمين. إن الأمن الحقيقي لا يتحقق إلا إذا أصبحت الدولة مملوكة لكل شعوب السودان، لا أداة في يد نخبة أو قومية مهيمنة. فالسلام لا يعني فقط إنهاء العنف، بل أيضاً إنهاء علاقات السلطة غير المتكافئة التي تنتجه باستمرار.
٤/ الاقتصاد، معاش الناس، وتعبئة الموارد:
في بلد تم تدمير اقتصاده بالكامل بفعل الحرب، ونهبت موارده لصالح شبكات عسكرية وتجارية طفيلية، يبدو حديث كامل إدريس عن التنمية مثيراً للسخرية. فلا تنمية ممكنة بدون إنهاء الحرب، ولا معاش يمكن تحسينه دون إعادة هيكلة كاملة لمنظومة الإنتاج والتوزيع، وإعادة السيطرة الشعبية على الموارد، وخاصة في الأطراف المهمشة.
كتب أمارتيا سن: “الفقر هو حرمان من القدرات، لا من الدخل فقط”.”
وهذا الحرمان لا يمكن رفعه بالكفاءة التقنية وحسب، بل بإعادة توزيع الثروة، وربط الاقتصاد بالحاجات الفعلية للمجتمعات، لا بسياسات التحرير الاقتصادي العشوائية، أو مشاريع الواجهة التي تفيد الشركات الكبرى فقط. كما لا يمكن تفعيل الزراعة والصناعة دون إعادة السيطرة على الأراضي المنهوبة، وضمان الأمن في الريف، ووقف عسكرة الاقتصاد، وتحريره من قبضة الجيش والأجهزة السيادية- ولا الدكتور “ماعارف”؟.
الاقتصاد لا يُعالج بالموازنات والتقارير، بل بالعدالة الهيكلية. ولا يمكن تحقيق العدالة دون إزاحة من استولوا على الثروة باسم الوطن، فلامعني الي تسويق الأوهام.
: ٥/ إعادة الإعمار، جبر الضرر، وإعادة هيكلة الدولة
هذه النقطة تكشف التضليل الصارخ في خطاب د. كامل إدريس. فهو يتحدث عن إعادة الهيكلة وكأنها إصلاح إداري أو هندسي، لا مشروع سياسي واجتماعي جذري. الدولة السودانية لا تحتاج إلى ترميم، بل إلى تفكيك وإعادة تأسيس. وإعادة الإعمار لا تكون فيزيائية فقط، بل سياسية ورمزية وعدلية، لأن ما تدمر هو أكثر من مبانٍ، لقد تم تدمير الثقة، والعقد الاجتماعي، والمساواة.
كتب جان جاك روسو: “لن تكون الأمة حرة حتى تكون هي من تصنع قوانينها”.”
إعادة الإعمار تبدأ بالاعتراف بالمسؤولية، وبمحاسبة من ارتكبوا الجرائم، وبتوثيق ما حدث، لا دفنه. أما جبر الضرر، فهو ليس صدقة من الحكومة، بل حق من حقوق الضحايا. والهيكلة لا تكون باستمرار الدولة المركزية، بل بتحويلها إلى دولة لامركزية، علمانية، تعددية، قائمة على تمثيل كل المناطق والشعوب، وعلي الديمقراطية لا على استدامة الامتيازات
والإعمار بدون عدالة تاريخية لا يُنتج دولة، بل يُنتج خرائط جديدة للسيطرة.
٦/ الاستشفاء الوطني والحوار السوداني السوداني:
شعار الحوار السوداني السوداني يبدو جميلاً، لكن ما يُخفيه أخطر من ظاهره. إدريس لا يدعو إلى حوار وطني حقيقي، بل إلى إعادة إدماج الإسلاميين والفلول في الحياة السياسية، تحت شعار الاستشفاء. هذا الحوار لا يعترف بالثورة، ولا بالمجازر، ولا يُحدد معايير للعدالة، ولا يُطالب بإعادة هيكلة السلطة، بل هو مجرد تسوية بين النخب.
كتب سلافوي جيجيك: “متى ما أصبح الغفران بديلاً عن العدالة، فإننا لا نؤسس دولة، بل نؤسس نسياناً منظماً”
أي حوار لا يمر عبر مساءلة النظام القديم، ومشاركة ضحايا الدولة، وتمثيل قوى الثورة والهامش، هو استكمال للانهيار. الاستشفاء لا يكون بتجاوز الجرح، بل بفتحه، وتطهيره، والاعتراف بألمه. أما التجاوز القسري، فهو إلغاء للذاكرة، وشرعنة للجلاد، والثورة لن تسمح بهذا.
الحوار ليس تقنية دبلوماسية، بل عملية إعادة تعريف لمن يستحق أن يُسمع، ومن يُقصى. وما يقترحه إدريس هو حوار بين المتنطعين ومتوهمي الانتصارات، لا تأسيس لمشروع وطني جديد.
اخيرا: السودان في هذا الوقت والمرحلة لا يُبنى بالكفاءة الإدارية وحسب، بل بالجرأة على التفكيك:
ما سُمِّي بخطاب الأولويات الذي قدّمه الدكتور كامل إدريس ليس مشروعاً للانتقال الديمقراطي، بل هو بيان إداري هشّ صيغ لإعادة بث الحياة في جثة الدولة العميقة. هو خطاب فوقي منفصل عن الواقع، لا يرى ثورة ديسمبر، ولا يعترف بأشواق ونضال الهامش، ولا يذكر كلمة ذات معني عن و لملايين الضحايا والنازحين، وكأن الحرب التي تفتك بالبلاد منذ 15 أبريل 2023 مجرد خلل أمني طارئ أو “تمرد” قابل للإدارة.
لقد جاء هذا الخطاب جبانا، متواطئا و خالياً من الجرأة على مواجهة الحقيقة: أن السودان ليس بحاجة إلى مدراء مهذبين يعيدون ترتيب فوضى الخراب، بل إلى مؤسسين جذريين يملكون الشجاعة الأخلاقية والفكرية لتفكيك بنية الدولة التي نشأت على الظلم البنيوي والاستعمار الداخلي، منذ ما يسمى بالاستقلال عام 1956
لا معنى للكفاءة وحسب في إدارة الخراب. لا قيمة للإدارة دون مشروع سياسي تحولي. لا جدوى لأي حوار لا يبدأ من مساءلة الذات السودانية الرسمية عن جرائمها، وتاريخها، وخطاياها. وكل من يتحدث عن “الانتقال” دون مواجهة جذر الأزمة إنما يسعى في حقيقة الأمر إلى تمديد صلاحية الانهيار وتجميله.
السودان لا يحتاج إلى إدارة كمت تسوق النخب احتيالا، بل إلى ثورة تأسيسية. ولا يحتاج إلى رجال بيروقراطية، بل إلى صانعي مستقبل يعترفون بالماضي، ويكسرون دائرة التواطؤ.
السودان لا يُدار… بل يجب ان يُؤسَّس من جديد.
خطاب الدكتور كامل إدريس يتجاهل جوهر اللحظة: نحن لا نعيش أزمة إدارة، بل نهاية نموذج دولة فاشلة، وموت شرعيّتها الأخلاقية والسياسية. الحرب ليست صدفة، بل نتيجة لفشل نظام مركزي إقصائي لم يعترف يومًا بالتعدد والتنوع والمساواة.
ولذلك، فإن أولويات السودان الحقيقية ليست ما جاء في خطاب الدكتور كامل إدريس، بل ما تُمليه دماء الضحايا وصيحات النازحين، وهي تبدأ بـ:
– وقف الحرب فورًا بإعلان من الجهة التي عينته، ومحاسبة المسؤولين عنها، دون استثناء أو مساومة.
– الاعتراف بجذور الأزمة في الاستعلاء الثقافي، العنصرية البنيوية، والاحتكار المركزي للسلطة والثروة.
– الاعتراف بثورة ديسمبر كمحطة تاريخية لا يمكن القفز عليها، ومستحقاتها.
– الشروع في عملية تأسيس جديدة لدولة سودانية مدنية، علمانية، ديمقراطية، لا مركزية، تقوم على العدالة التاريخية – والمواطنة المتساوية.
ما دون ذلك، هو مجرد إعادة تدوير للمأساة، وإدارة لجثة دولة لم تعد تُقنع أحداً بأنها قابلة للحياة.
السودان لا يحتاج إلى خطاب إداري مطمئن، بل إلى نداء تأسيسي زلزال، وللحديث مع الدكتور بقية!
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)