عبدالرحمن الحوار: خربشات فلسفية

الأصل في الإنسان هو حب التملك والاستحواز . فإذا كان بامكان الإنسان أن يتملك الأشياء دون أي اعتراض من اي إنسان آخر او منافس اخر سواء كان هذا المنافس فردا او جماعة او حتي مخلوقا أخر كالحيوانات التي تدافع عن ماتعتقد انه ينتمي اليها ،
في حالة غياب كل ذلك فإن الإنسان حينها لا يحتاج الي اي تبرير او غطاء . ولكن لان الإنسان كائن يعيش غالبا في جماعة فإن هذه الجماعة عادة تتحول الي (مجتمع ) . تتحول الي ( منظومة ) … الي (بنية اجتماعية ) . وهي لايمكن أن تكون كذلك الا اذا كانت لها بروتوكولات منظمة ( بمعني قانون اعلي او دستور ) …هنا يفترض أن يولد مايمكن ان نطلق عليه الأخلاق العامة (سنكتشف لاحقا ان الأخلاق لا تحتاج اصلا الي اي مجتمع لكي ينتجها ) . ويفترض ايضا ان تولد من (الأخلاق العامة ) القوانين التي وظيفتها ان تحمي هذه الأخلاق وهذه الأخيرة بدورها تحمي البروتوكلات التي تحمي البنية . وعادة يتم التعبير عن كل ذلك بأكثر الأشكال غموضا وتجريدا وهو الدين … ويتم تغليف كل ذلك وتزيينه وتلوينه بشيء اسمه الثقافة . فالأصل إذن هو نزعة التملك والاستحواز … فإذا تحقق للإنسان ذلك بدون اعتراض فحينها لايحتاج الي اي تبرير او اي غطاء ديني او ثقافي او قانوني …الخ . أما إذا حدثت منافسة او اعتراض ( وهذا هو الأرجح ) فإن التملك حينها يسمي سرقة وهذه لابد لها من غطاء .فالسرقة قد ينجح السارق في تغطيتها بهذا القدر او ذاك بحيث من الممكن أن تعتبر مجرد احتيال او خداع او ان السارق كان يجهل حرمتها او ان ماقام به مجرد سهو يمكن غفرانه او انه قد ينجح في تحويلها من ممنوع الي مباح و قد ينجح حتي في الحصول علي اعتذار ..او يمكن ان تصل الأمور الي درجة تكريمه والاحتفاء به كونه بطل … ولكن أيضا قد يدق عنقه اذا فشل . وهنا لابد من ( سلطة ) تحدد المعايير وتنتج المفاهيم والقيم والاحكام … لابد من سلطة متوافق عليها تقوم بمعايرة الأمور لتحديد درجة مشروعيتها او قانونيتها او دستوريتها بمعني مطابقتها للبروتوكولات المؤسسة … بمعني مطابقتها للدستور الذي ليس هو سوي مجموعة ( البروتوكولات ) التي نظمت الجماعة لحظة تكونها علي هيئة مجتمع . المشكلة هنا تكمن في أي من هذه الامور يمكن ان يحدد الأحكام : هل الأخلاق ام الدين ام الثقافة ام القوانين ؟؟ .هل هذه المصطلحات متساوية في القيمة وان اي منها من الممكن أن يقود الي الاخر ام انه لابد ان يأتي أحدها قبل الاخر لدرجته او اسبقيته او ترتيبه في الأهمية ؟ هل لزاما ان يأخذ أحدهما دائما برقاب الاخر في اتجاه واحد غير قابل للانعكاس ؟؟ … بمعني هل الأخلاق تقود الي الدين ام يمكن للدين ايضا ان يقود الي الأخلاق ؟؟ .
…….
بمرور الوقت اتضح للناس في كل الحضارات ( = تجمعات هائلة للغاية من البشر تحركها غرائز التملك ) ان اكثر النزعات أصالة واستقلالية هي الأخلاق … فالاخلاق تنبع فجأة وعلي نحو غير مسبوق من ( الظرف الانساني ) نفسه ولاتستمد قوتها من اي دين او قانون او ثقافة او بروتوكول …
تستمد قوتها من غريزة اكثر رسوخا وعمقا حتي من نزعة او غريزة التملك نفسها التي اعتبرت لزمن طويل بأنها منبع كل قيمة …تلك الغريزة التي تستمد منها الأخلاق قوتها هى (غريزة البقاء ) . فالاخلاق هدفها الأساسي المحافظة علي روح الموجودات جميعها . المحافظة علي روح كل شيء جامدا كان او متحركا. فالاخلاق هي القيمة الوحيدة التي لاتحتاج الي اية رافعة اخري ….لا تحتاج الي اي مجتمع او ناس … لايمكن انتاجها اصلا عن قصد او من دون قصد … لايمكن شراؤها او تملكها ولايجوز حتي كتابتها في نصوص مكتوبة او مرئية او مسموعة … لايمكن اصلا ادراكها مسبقا او إنتاجها مسبقا من اي مصدر . هي تنبع اساسا من ( الظرف الإنساني ) . الموجود بشكل مستقل و موضوعي خارج سيطرة الإنسان نفسه .
… …
يقول أحد شعراء الهايكو :
كان لي عصفور في قفص من ذهب ..اعطيه كل مايحتاجه من دفء وأكل وشرب .
نسيت القفص مفتوحا ذات يوم فخرج ..
رايته مرة او مرتين تحت الثلج وتحت المطر متشبسا بأحد الاغصان اليابسة …بدون اكل وبدون دفء او سقف او غطاء .
كان يعرف ان بإمكانه ان يأتي الي قفصه لياكل ويتدفأ ثم يطير
ولكنه اختفي ولم يأت…
نسيت شكله ولونه الان ولكن الشيء الوحيد الذي لم انسه هو حقيقة ان ملء جسمه الكبرياء.