بين البرهان وكرتي .. والسعودية ومصر: خطاب حميدتي وتفكيك المشروع المعادي لإرادة الشعب السوداني

(المحلل السياسي) التنوير
في لحظةٍ فارقة من عمر الحرب السودانية، خرج محمد حمدان دقلو، “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع، بخطاب استثنائي، ليس فقط من حيث توقيته، بل من حيث مضمونه ومقاصده وخلفياته؛ خطابٌ يتجاوز في ظاهره اللغة التعبوية إلى ما يمكن اعتباره صياغة واضحة لرؤية الحرب كأداة لإعادة تشكيل السودان، لا مجرد انتزاع مواقع على الأرض.
ابتدر حميدتي خطابه بتهنئة قواته على (الانتصارات الكبيرة) في محور كردفان، قائلاً إن الجيش قد ألقى بكامل ثقله العسكري في متحرّك “الصياد”، مؤكداً أن قواته قضت على ما سمّاها *القوة الصلبة*، ومقللاً كذلك من دور “القوة المشتركة” في ساحات القتال. لكن أخطر ما جاء في خطابه كان حديثه، بلهجة واثقة، عن استخدام الجيش لأسلحة كيميائية عبر البراميل المتفجرة ضد المدنيين، ما يشي بأن قواته قد وضعت يدها على أدلة ميدانية تدعم الرواية الأمريكية، وتساعد المنظومة الدولية في حال قرّرت تشكيل لجنة تحقيق دولية؛ وهو أمر قادم لا ريب فيه.
الملاحظ في خطاباته أنه، ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، تعدّدت خطابات حميدتي، ولكن لم يسبق لأي منها أن بدا بهذا القدر من المباشرة والاتساق السياسي والبراغماتية الخطابية. فالخطاب، وإن قيل بلغة عامية بسيطة، بدا واضحاً غاية الوضوح في تسمية الأشياء بأسمائها: العدو لم يعد فقط القيادة العسكرية في بورتسودان، بل منظومة أيديولوجية كاملة تتخفّى خلف البزة العسكرية، هي الحركة الإسلامية السودانية (الكيزان)، التي ما تزال تمسك بمفاصل الجيش، وتوجّه خياراته السياسية والعسكرية من وراء الستار.
*تشريح الجيش القومي*:
الركيزة الأساسية في خطاب حميدتي جاءت عبر الطعن في الصورة المؤسسية التي يحاول الجيش تسويقها لنفسه منذ بداية الحرب، بل منذ استقلال السودان، بوصفه جيشاً مهنياً عابراً للسياسة وحامياً للوطن. وقد تجلّى ذلك في سؤاله البسيط: *كيف لجيشٍ قومي أن يقاتل تحت قيادة ميليشياوي مرتزق مثل عبد الله جنا؟* وفي هذا السؤال لا يكتفي حميدتي بالتشكيك في نوايا قيادة الجيش الحالية، بل يهدم أسطورة عمرها عقود.
وهو يوضح هنا بأنها ليست مجرد معركة نفوذ، بل محاولة لتفكيك الرواية الرسمية للجيش الذي ظل يختطف السياسة والدولة طوال 57 عاماً من أصل 69 عاماً هي عمر السودان منذ الاستقلال، نصفها تقريباً حكمها مختطَفاً بواسطة الحركة الإسلامية.
*الحرب كمرآة للصراع الإقليمي*:
تطرّق الخطاب أيضاً إلى أبعاد إقليمية ودولية بالغة الحساسية. أشار حميدتي صراحة إلى *الدعم المصري العسكري* لسلطة الجيش في بورتسودان، وذكر الطرق التي تمر بها الأسلحة عبر الحدود، مشيراً إلى أن هذا الدعم لم يعد سرياً. الأهم من ذلك كان كشفه عن استخدام مزاعم وجود قوات *فاغنر* كذريعة من قبل حكومة بورتسودان لتضليل المجتمع الدولي، في ما بدا اتهاماً مباشراً لها بخيانة السيادة الوطنية وتحويل السودان إلى ساحة لتصفية حسابات خارجية.
*تفكيك مشروع الإسلام السياسي*:
اللقاء الذي استعرضه حميدتي مع قائد الحركة الإسلامية السودانية *علي كرتي* لم يكن مجرّد حكاية شخصية، بل كان مَجازاً محمّلاً بالدلالات. صورة *كرتي* المختبئ في عربة قديمة متهالكة، تُرادف صورة الحركة الإسلامية كلها: *منهزمة، لكنها لا تزال تتحكّم من خلف الستار*. بهذا المعنى، فإن حميدتي لا يحارب الجيش بما هو جيش، بل بما يمثّله من امتداد سياسي للحركة التي أطاحت بها ثورة ديسمبر، ثم استعادت مواقعها لاحقاً بلبوس عسكري عبر بندقية الجيش.
*تفكيك وهم التسوية السياسية*:
أكثر ما تجنّب الخطاب الحديث عنه هو تعيين كامل إدريس رئيساً للوزراء من قبل قائد الجيش عبد الفتاح البرهان. وفي هذا التجاهل دلالة فاضحة: لا يعترف حميدتي بأي حكومة تُشكَّل بقرار عسكري من سلطة بورتسودان. بل ذهب أبعد من ذلك حين وصف *منبر جدة* بأنه لم يكن إلا وسيلة استهلاكية لشراء الوقت، *استخدمها البرهان لترتيب وضعه العسكري*، بينما كانت قواته تُعدّ العدّة لـ”قضاء سريع” على الدعم السريع، خلال شهر فقط، بحسب ما كشفه الخطاب.
ما لم يقله حميدتي في خطابه أن *جدة* قد فقدت دورها بوصفها وسيطاً *حين فقدت السعودية أهم شروط الوساطة، وهو الحياد*، بموقفها الداعم لطرف من أطراف الحرب، وهو الجيش. وهو دعمٌ تجاوز الجوانب التقنية والمادية، إلى توظيف دبلوماسيتها في المحافل الدولية للوقوف خلف الجيش، وبالتالي خلف الحركة الإسلامية التي تسيطر على قراره، وآخرها موقفها في جامعة الدول العربية الأسبوع الماضي.
*نهاية الحرب ليست قريبة*:
الاستنتاج الأكثر أهمية الذي يفرضه هذا الخطاب ليس في نبرته الانتصارية الظاهرة، بل في واقعيته الصادمة: *هذه الحرب، بكل شراستها، ليست على وشك أن تضع أوزارها*. بل إن نهايتها، وفقاً لرؤية حميدتي، لن تأتي إلا عبر كسر العمود الفقري للنظام القديم: *تفكيك الجيش من قبضة الإخوان المسلمين. وهذا شرطٌ صحيح يتفق معه كل الوطنيين السودانيين، ولكن لا يبدو – بل المؤكّد – أن قيادة الجيش مستعدة لقبوله، بل تسعى، على العكس، إلى تأبيده من خلال واجهات مدنية لا تملك من أمرها شيئاً.
لقد وصف حميدتي في خطابه توصيفاً صحيحاً؛ فالحرب ليست فقط مجرد نزاع لاستعادة السلطة من قبل الحركة الإسلامية (الكيزان)، وإنما استصحب معها أبعاداً تاريخية تشمل الصراع على مدنية الدولة. وهي قضية لا تنفع معها حلول ترقيعية، ولا حكومات ديكور، ولا موائد حوار تحت رعاية إقليمية. *إن لم يُحسم مصير الحركة الإسلامية داخل الجيش، فإن النيران ستبقى مشتعلة، تتغذّى من الماضي، وتفترس الحاضر، وتسدّ كل المنافذ نحو المستقبل*
والحال كذلك، فإن الخلاصة هي: *إن الحرب في السودان، بحسب المنظور الذي ورد في خطاب قائد قوات الدعم السريع، لن تتوقّف عند خطوط النار، بل ستحسم عند مفترق المصير: إمّا جيش قومي متحرّر من إرث الحركة الإسلامية، أو استمرار دوّامة الحرب إلى أجلٍ غير مسمّى*.