رأي

د. عبد الله علي إبراهيم؛ نموذج المثقف المنحاز عرقيًا والمتمترس جهويًا – حالة انهيار منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية (1)

الحلقة الاولى

 د. فاطمة الزين الغالي: 

ما أشدّ أن ترى مثقفًا ينهار على الهواء، لا في لسانه، ولا في منطقه، بل في روحه. فقد ظهر الدكتور عبد الله علي إبراهيم، أحد رموز النخبة النيلية، في لقاء على شاشة قناة الجزيرة، إلى جانب الدكتور الوليد آدم مادبو، ليقدم، دون أن يدري، مشهدًا بائسًا لانهيار ما تبقى من مقام المثقف السوداني. لقد ظن عبد الله، القادم من مكاتب الجامعات الأمريكية، أن تلاعبه بالكلمات يكفي لتمرير عنصريته المضمرة، لكنه هذه المرة فشل في التمويه، وسقط القناع عن وجهه، لتتكشف غطرسة دفينة، لا تخفى إلا على من لا يعرف سياق هذا الوطن الجريح.

لم يتحدث عبد الله كمثقف مستقل أو ضمير وطني، بل بدا كمن ارتدى درع الجيش الرسمي وانحاز بلا مواربة لمؤسسة لم تعد تمثل الوطن، بل تمثل نظامًا عتيقًا متآكلاً، جعل من القوة العسكرية وسيلة لفرض القهر على الأغلبية السودانية التي ظلت دومًا مهمشة، ملاحقة، ومقصاة من مشهد الدولة. لم يكن ذلك الانحياز لمؤسسة وطنية، بل كان انحيازًا للمركز النخبوي الذي ترى فيه نخبة الشمال النيلي خلاصها الأبدي، وتمارس عبره وصايتها المزمنة على الآخرين.

 

لقد كشف هذا الخطاب المتعثر عن خلل عميق في بنية المثقف الذي ما زال يرى في ذاته مرجعًا قوميًا، ولو على أنقاض الحقيقة. عبد الله، الذي طالما قدّم نفسه بوصفه حاملًا لمشروع فكري نقدي، ينادي بالعدالة والمساواة، خان في هذه اللحظة كل القيم التي ادعى يومًا أنه يدافع عنها. خريج الجامعات الغربية، أستاذ العلوم الاجتماعية، الذي نشأ وتعلم في بيئة تتغنى بقيم الليبرالية والحقوق المدنية، تخلى عن كل ذلك حين تحدث عن الحرب، لا كمبشر بفضيلة التسامح، بل كوكيل لمشروع التفوق النيلي، المحتقر للآخر، والذي يرفض أن يرى في قوى الهامش أكثر من مجرد “متمردين” أو “مرتزقة”.

 

كم هو محزن أن يفقد المثقف بوصلته الأخلاقية إلى هذا الحد. أن يصبح لسانًا للسلطة بدلًا من أن يكون ضميرًا للأمة. أن يسقط في فخ المقارنات العنصرية وهو يعلم، أو يجب أن يعلم، أن كلماتٍ كهذه تقتل كما يقتل الرصاص. إن استخدامه لعبارات مثل “جيش قومي” و”مليشيا” ليس توصيفًا مهنيًا، بل هو إدانةٌ لما تبقى له من اتزان فكري. فهو يعلم تمامًا أن كلمة “قومي” تستخدم في الخطاب السوداني لتلميع المركز، وأن كلمة “مليشيا” لا تُسقط على جماعة بعينها، بل هي تهمة جاهزة تُطلق على كل من خرج عن طوع المؤسسة المتكلسة، حتى وإن كان يحمل مطالب أهل دارفور أو جبال النوبة أو كردفان أو الشرق.

اللافت في هذا اللقاء أن الفارق لم يكن فقط في الرؤية، بل في مستوى الخطاب الأخلاقي والإنساني. فقد بدا الدكتور الوليد آدم مادبو أكثر اتزانًا، أكثر احترامًا للمشاهد، وأكثر التزامًا بقيم العدالة الحقيقية، التي لا تتلون بحسب موقع الضحية أو اسم المدينة التي قصفت. أما عبد الله علي إبراهيم، فقد امتلأ كلامه بمكر الخطاب، وتعالٍ مصطنع، وعجز فاضح عن مواجهة حجج مادبو الموضوعية، فبدأ ممتعضا من حديثه، وكأن لسان حاله يقول: من أنت حتى تحاججني؟ إنها نفس العقلية التي جعلت من المركز محتكرًا للكلمة والتاريخ، ورافضًا لكل صوتٍ يخرج من الهامش، ولو كان أكثر علمًا ونزاهة.

 

لقد انهار عبد الله علي إبراهيم على الشاشة، لا لأنه أخطأ في التفاصيل، بل لأنه كشف عن جوهره. تحوّله من يساري يكتب عن الحقوق والوعي الجمعي، إلى بوقٍ للسلطة العسكرية الإخوانية، ليس تحولًا فكريًا بقدر ما هو عودة إلى الغريزة الأولى: التمترس وراء الجغرافيا، والتحصن بالعرق، والدفاع عن الامتيازات الطبقية المتوارثة. إن ما قدمه في هذا اللقاء ليس موقفًا سياسيًا، بل سقوطًا مدويًا في هاوية الجهوية، وانهيارًا تامًا لمنظومة القيم التي ادعى يومًا أنه ينتمي إليها.

سنعود في الحلقة الثانية لتفكيك هذه المسيرة المتناقضة، من منابر اليسار إلى متاريس العنصرية، وكيف أصبح عبد الله علي إبراهيم شاهدًا على مأساة النخبة التي رفضت أن تتصالح مع حقيقة الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!