
تتَّفقُ أو تختلفُ معه، لايهُمُّ؛ فهو قَبَسٌ من نورٍ في ظُلمةِ هذا القبو الممدَّد تحت حُرُوف الكتابة.
وفي اقتباس طريقتِه ترياقٌ لأدواءِ المُماطلةِ والتَّعطَّل، من غير سُقُوطٍ في سُبَّةِ التَّعجُّل.
خَبِرَ دُرُوبَ الحُرُوف وتعرُّجاتِ الخُطُوط، فلانتْ جميعُها لقلمِه وريشتِه.
وفوق ذلك كلِّه، معرِفةٌ خابرةٌ بالتِّقنِيات المتطوِّرة للحاسوب والذَّكاء الاصطناعي.
وفي الصَّدرِ قلبٌ عامرٌ بحُبِّ النَّاسِ البُسطاءِ وتصدٍّ دائمٌ لقضاياهم المباشرة.
ذهب للقاهرة بنيِّةِ الوُصُول إلى “باريسَ” لإنجازِ عملٍ فنِّي لازِب، فذهبت ميزانيَّةُ سَفَرِه في مُداواةِ المَرضى ومواساة المكلومين (ولم يجِد “صنع الله” منه سوى محادثةٍ خاطفة).
كُنَّا نقِفُ على قارعةِ الطَّريق في “سدني”، بانتظارِ حافلةٍ لا نَعرِفُ متَّجهها؛ فلمَّا طال انتظارُنا، اتَّصلنا به هاتفيَّاً عبر رَقَمٍ زوَّدنا به “القصَّاص”، ولم نكُن نَعرِفُه من قبل.
أتانا بسرعةِ البرق، وتعارَفنا في الطَّريق إلى “ليفربول”؛ وكانت تلك أوَّلُ وآخرُ مرَّةٍ للالتقاء به من غير طريق التَّواصُل الهاتفي.
يَنصحه “القصَّاصُ” بالتَّروِّي، فتلك طريقتُنا في المعالجة الجماعيَّة للمكتوب، في غياب المؤسَّسات الرَّاسخة في مجالاتِ التَّحريرِ والتَّصميمِ والتَّناولِ النَّقدي.
إلَّا أنَّ طريقتَه تتلاءمُ تماماً مع هذا العصرِ المتسارِعِ كجُرمٍ متهاوٍ من علٍ.
فهو لا تنقصُه المعرفةُ أوِ الاطِّلاعُ المعمَّقُ على الكتاباتِ المعاصرة، بل يُوظِّفها كلَّها في خدمة القضيَّةِ الَّتي يُنافحُ من أجلها.
فثمارُ المانجو قد يسَّاقَط في سوقِ “قيسانَ” من غير أن يُثيرَ سوى ذُعرٍ مؤقَّتٍ ودهشةٍ عابرة.
لكنَّ تفَّاحةً واحدةً سقطت أمام عقلٍ مهجوسٍ بقضايا العلم، قد ألهمته قانوناً عامَّاً للجاذبيَّة، وهو ما يُعرَف بثابت نيوتن.
كذلك فإنَّ عقلاً مهجوساً بالكتابة ومدرَّباً على التَّشكيل ومهموماً بقضايا الفقراء، لا يقفُ عائقٌ تحريريٌّ أمام إنتاجه الثَّر.
تتَّصفُ عبارتُه بالرَّشاقة، وأفكارُه بالتَّدفُّق الحميم، من غير أن تخلو من عُمقٍ مطلوب.
يكتُبُ بطريقةِ “الأفوريزمات”، وهي طريقةٌ قديمةٌ ومُستحدَثةٌ في ذاتِ الآن؛ برع فيها العديدُ من الكُتَّاب الألمان، ومنهم نيتشه وشوبنهاور وفيتجنشتاين.
فضيقُ العبارة عند أهلِ الفكر قد يهجِس، كما جاء في “المواقف والمخاطَبات”، باتِّساع الرُّؤيا.
ومصادرُ التَّعلُّم لا تقفُ عند حُدُود العلماء والمفكِّرين، بل تتعدَّاهم إلى البشر جميعاً وربَّما الحيواناتٍ الأخرى كذلك.
فمِن فمِ طفلٍ أو طفلةٍ، قد تخرُجُ حِكمةٌ أو فكرةٌ نيَّرة.
وعبر أحمقَ أو أبلهٍ أو درويش، قد تجتمعُ أممٌ متنافرةٌ، كما جاء في “عرس الزَّين”.
ناهيكَ عنِ إنسانٍ مرهَفٍ كإبراهيمَ، وريشةٍ بارعةٍ كريشةِ برسي.