سليم محمد عبدالله: الكلى تنزف .. الأمل يموت؟

في قلب السودان النازف، حيث يختلط تراب الحرب بدماء الأبرياء، هناك صرخات مكتومة لآلاف الأرواح تترنح على حافة الهاوية. إنها صرخات مرضى الفشل الكلوي، الذين تتعلق حياتهم بخيط رفيع يمسك به أبطالٌ صامدون في مراكز غسيل الكلى المنهكة. هؤلاء الأبطال، ورغم كل شيء، يرفضون الاستسلام.
صمود أسطوري ومعاناة لا تُصدق
منذ اندلاع الشرارة الأولى لهذه الحرب اللعينة، والكوادر الطبية في مراكز غسيل الكلى لم تغادر مواقعها. إنهم يعملون بلا كلل، بكل مهنية وإخلاص لا يُضاهى، لخدمة من تُصبح حياتهم مستحيلة دونهم. لكن تضحياتهم الجبارة تُقابل بإهمال يفتت الصخر، وتحديات كفيلة بأن تكسر أقوى العزائم.
إنها ليست مجرد أرقام تُحصى في تقارير باهتة؛ إنها قصص معاناة يومية مُركبة لكوادر طبية تواجه الموت في كل لحظة. لا يقتصر الخطر على رصاص الحرب؛ فإهمالهم يُهدد بإنهاء روح المهنة والإنسانية ذاتها. أجورهم بالكاد تسد رمقهم، إن وصلت، ودائماً ما تكون متأخرة. الدعم النفسي والاجتماعي غائب تماماً، رغم أنهم يشهدون الألم والموت كل يوم. يعملون في بيئة خطرة، بلا حماية تُذكر، لساعات طويلة، في غياب لأبسط مقومات الحياة. ومع ذلك، تظل قلوبهم معلقة بحياة المرضى، وأياديهم لا تعرف التوقف عن العطاء.
تخيل كادرأ طبياً يعلم أن حياة عشرات المرضى بين يديه، لكنه لا يملك ثمن وجبته أو حتى المواصلات للوصول إلى المستشفى. تخيل كوادر تعمل لثلاثة أيام متواصلة، دون نوم أو راحة كافية، لأنها تدرك أن غيابها يعني موت مؤكد لمريض. هذه هي الروح السودانية الأصيلة في أبهى صورها؛ إيثار يفوق الوصف، وعزيمة لا تلين. لقد اختاروا البقاء، اختاروا خدمة وطنهم في أحلك الظروف، بينما كان بإمكانهم البحث عن حياة أفضل في مكان آخر. إنهم شموع تُضيء في أتون الظلام.
مرضى على شفير الهاوية: نداء القلب الممزق
على الجانب الآخر من هذه المأساة، يتجرع المرضى مرارة مضاعفة تكسر الروح قبل الجسد. فمع كل جلسة غسيل، هناك صراع آخر مع نقص كارثي في الأدوية والعقاقير الطبية الأساسية. أدوية السكري والضغط وأمراض القلب، التي غالبًا ما تُلازم مرضى الفشل الكلوي، أصبحت شبه معدومة أو بأسعار فلكية تفوق قدرة أي أسرة. تكاليف الفحوصات الطبية الباهظة، وإجراءات عمليات الفستولا الجراحية الضرورية التي تفتح شريان الحياة للغسيل، تحولت إلى عبء لا يُطاق. إنها ليست مجرد صعوبات، بل عقبات قاتلة تقف بين المريض وفرصته الضئيلة في البقاء على قيد الحياة.
“المركز القومي للكلى” غياب مُفجع وقصور يُكلف أرواحاً
في قلب هذه الكارثة الإنسانية المتفاقمة، يبرز القصور المُفجع للمركز القومي للأمراض وجراحة الكلى. ففي وقت تتطلب فيه الأزمة تكاتف الجهود وقيادة حكيمة ورؤية ثاقبة، يظل المركز في حالة من التوهان والغياب. الدعم شبه معدوم، والزيارات الميدانية للمراكز نادرة، مما يترك الكوادر والمرضى يشعرون بأنهم منسيون تماماً، بلا ظهر يحميهم أو إدارة تشعر بهم. هذا الغياب لا يُثبط عزائم الكوادر التي تُصارع المستحيل وحسب، بل يُضاعف معاناة المرضى ويُقربهم من حافة الموت.
إنه لأمر لا يُصدق أن تغيب الرؤية المستقبلية عن هذا الصرح الحيوي. ففي الوقت الذي يمكن فيه تخفيف معاناة آلاف المرضى بشكل جذري، لا تُوجد خطوات جادة لفتح مراكز لزراعة الكلى. زراعة الكلى ليست مجرد خيار؛ إنها أمل حقيقي في حياة طبيعية كريمة لعدد كبير من المرضى الذين يمتلكون فرصة العثور على متبرع. إن الاستثمار في زراعة الكلى لا يُقلل الضغط على مراكز الغسيل المكلفة وحسب، بل يمنح المرضى حياة بعيداً عن الجلسات المؤلمة. لكن هذا الأمل يظل معلقاً، مُجمدًا، بسبب غياب التخطيط والتقصير غير المبرر في المسؤولية.
نداء الإنسانية
أنقذوهم قبل فوات الأوان!
هؤلاء ليسوا مجرد موظفين؛ إنهم أبطالٌ حقيقيون لا يعرفون اليأس، حصنٌ منيع يقف في وجه الموت لآلاف السودانيين. إن استمرار هذا الإهمال المُروع يعني انهياراً حتمياً لآخر معاقل الأمل في وجه الفشل الكلوي. تخيلوا للحظة واحدة لو توقفت مراكز غسيل الكلى عن العمل؛ كم روحاً ستُزهق؟ كم أسرة ستُدمر؟ إنها كارثة تتجاوز كل تصور.
لذلك، يجب علينا، كأفراد ومؤسسات وحكومات ومنظمات دولية، أن نفيق من سباتنا العميق. الآن، وليس غداً، هو وقت تقدير هذه الأرواح النبيلة، كادراً ومرضى. يجب أن نمد لهم يد العون قبل فوات الأوان:
أجور عادلة ومُنتظمة: إنها ليست منة، بل حقهم وتقدير لتضحياتهم غير المحدودة.
بيئة عمل آمنة وكريمة: حماية من الاعتداءات، مستلزمات وقائية ضرورية، وتوفير مقومات الحياة الأساسية للمراكز {كهرباء، مياه، صرف صحي}
دعم نفسي واجتماعي شامل: فهم بشر، يتأثرون ويتألمون، ويحتاجون لمن يسمعهم ويخفف عنهم أعباء الرؤية اليومية للموت.
برامج تدريب وتطوير مستمرة: ليعرفوا أن هناك من يهتم بمستقبلهم المهني ويُقدر عطاءهم.
توفير فوري للأدوية والمستلزمات الطبية: بشكل منتظم، بأسعار معقولة، وبآليات توزيع آمنة تضمن وصولها للمرضى.
تغطية تكاليف الفحوصات والعمليات الجراحية: تخفيفاً للعبء المالي الهائل عن المرضى وأسرهم المنهكة.
تنشيط فوري للمركز القومي للأمراض وجراحة الكلى: يجب أن ينهض بواجبه كاملاً في الدعم، الزيارات الميدانية المستمرة، والتخطيط الاستراتيجي الفعال.
إطلاق خطط عاجلة لإنشاء مراكز لزراعة الكلى:
هذا هو الحل المستدام لتقليل المعاناة وفتح آفاق حياة جديدة للآلاف.
دعونا لا نسمح لهذه الشموع المضيئة بالانطفاء. إن دعم هؤلاء الكوادر والمرضى ليس رفاهية، بل ضرورة قصوى لضمان استمرارية الحياة لآلاف السودانيين. فلنقف معًا، بكل قوة وعزم، لنقول لهم: “أنتم لستم وحدكم، تضحياتكم ليست هباءً، ووطنكم لن ينسى أبطاله.” حان الوقت لنترجم كلمات الشكر إلى أفعال، ونبني لهم جسورًا من الأمل في بحر اليأس. حياة السودانيين بين أيدي هؤلاء الأبطال؛ فلنمنحهم القوة ليواصلوا معركتهم النبيلة.