رأي

 عباس احمد السخي: ألا إن نصر الله قريب؛ حواشي حول خطاب الجنرال المهيب حميدتي

الحلقة الثالثة: نداء الانبعاث وبوادر الدولة الجديدة

حين يخوض القائد معركته المصيرية، لا يخاطب جنوده فحسب، بل يخاطب التاريخ. وعندما يتحدث حميدتي في نهاية مرحلة عسكرية مفصلية، فإن كلماته لا تكون مجرد إعلانات سياسية، بل ملامح لبداية جديدة، تتخلق على وقع البارود، وتتكوّن بين ركام دولة سقطت وأمة تبحث عن خلاصها.

في خطابه التاريخي الأخير، رفع الجنرال محمد حمدان دقلو نبرة الروح، وتجاوز منطق التكتيك العسكري، ليخاطب جوهر الأزمة السودانية: الإنسان، والمجتمع، والدولة.

أولًا: “ألا إن نصر الله قريب”… من شعار إلى عهد وميثاق

هذه العبارة التي ختم بها حميدتي خطابه ليست ترفًا لغويًا ولا استعارة دينية للاستهلاك الخطابي. إنها إعلان نوايا، وتجديد ميثاق مع الشعب والقضية، ومربط الرسالة الأخلاقية التي أراد الجنرال أن تُكتب له في صفحة التاريخ: “لقد قاتلنا لأننا نؤمن بعدالة موقفنا، وليس لأننا نهوى السلطة أو نحترف الحرب”.

“نصر الله” هنا ليس نصر السلاح فقط، بل نصر الحق، ونصرة المظلوم، وإحقاق العدل. لم يقل: “نصرنا قريب”، بل قال: “نصر الله”، كأنه يخلع النصر من نفسه، وينسبه إلى الأعلى، ليعلن ضمنيًا أن القوة لم تعد هدفًا، بل وسيلة لإقامة العدل وإنهاء الاستبداد.

ثانيًا: إرهاق الجسد… وشفافية القيادة

ما بين سطور الخطاب، ومع كل جملة، بدا واضحًا أن القائد مُجهد جسديًا، مُنهك من طول الطريق، والضغط المتواصل، والإشراف المباشر على جبهات القتال. ولكن هذا الإرهاق الجسدي لم يطفئ ومضة الثقة في صوته، بل على العكس، جعله أقرب إلى الإنسان العادي منه إلى الزعيم المتكلف.

في هذه اللحظة، لم يكن حميدتي يرتدي عباءة النصر الزائف، بل عباءة الحقيقة العارية: قائدٌ يتقدم الصفوف، يدفع الأثمان، ولا ينام إلا بعد أن تطمئن الجبهة. لقد ألغى في هذا الخطاب الحواجز النفسية بينه وبين جمهوره، وظهر في صورته الأصدق: رجل من الميدان، لا من الأبراج.

ثالثًا: أخلاقيات الحرب في خطاب رجل الدولة

من أعظم ما في الخطاب ليس ما وعد به الجنرال قواته، بل ما ألزمهم به. لم يقل لهم “افتحوا المدن”، بل قال:

  • لا تمسوا حقوق المواطنين.
  • لا تقتلوا الأسير.
  • من فعل ذلك لا يمثلنا.
  • المستشارون القانونيون يجب أن يكونوا في قلب الجبهات.
  • المحاكمات الميدانية ليست خيارًا، بل واجب.

هنا نحن أمام مفارقة تاريخية: أن تصدر تعليمات الانضباط الحقوقي من القائد نفسه خطاب هو إعلان حقيقي بأن تحوّله إلى رجل دولة قد اكتمل. فالدولة ليست مؤسسة فحسب، بل مجموعة قيم، وإذا صمدت القيم، تتبعها المؤسسات لاحقًا.

إن حميدتي هنا يرسم حدود الدولة التي يريدها: لا مكان فيها للانتقام، لا مساحة فيها للفوضى، لا ملاذ للمجرمين داخل صفوفه.

رابعًا: من المراجعة إلى المحاسبة… شجاعةٌ لا يتقنها الطغاة

بقدر ما أذهل الخطاب خصوم حميدتي، فقد أربك حلفاءه التقليديين أيضًا. لأن الزعيم حين يعترف بخطأ جنوده، ويتوعد بفتح تحقيق شفاف، ويقول صراحة: “لن نغطي على أحد”، فإنه بذلك يُعلن أن زمن الإفلات من العقاب قد ولّى.

إن تعهده الصريح بالتحقيق في حادثة دهس أحد الأسرى لم يكن مجرد تهدئة للرأي العام، بل تطبيقٌ فعليٌّ لمفهوم الدولة المسؤولة، تلك التي لا تتستر على جرائم منسوبيها، بل تفتح دفاتر الحساب أمام الجميع.

إنه انقلاب على العقلية الأمنية القديمة، التي كانت ترى في المحاسبة ضعفًا، وفي المراجعة عارًا. أما هنا، فقد كانت المحاسبة شجاعة دولة تولد من قلب المعركة.

خامسًا: مشروع سياسي أم تكتيك عسكري؟

قد يسأل البعض: هل هذا الخطاب وثيقة نصر ظرفية، أم مقدمة لمرحلة حكم جديدة؟ هل نحن أمام قائد انتصر ويريد الخروج بسلام، أم زعيم يحمل على كتفيه مشروعًا سياسيًا متكاملاً؟

الإجابة، في ظاهرها، قد تبدو معلقة. ولكن من يتأمل مضمون الخطاب، ونبرته، وتوقيته، يدرك أننا أمام بداية تحوّل من مرحلة السلاح إلى محطة قريبة هي مرحلة البناء، من مرحلة الردع إلى مرحلة الشرعية، من قيادة ميدانية إلى قيادة وطنية.

إن خطاب حميدتي لا يطالب بالولاء، بل يسعى إلى بناء عقد اجتماعي جديد، يتأسس على:

  • عدالة المعركة.
  • وضوح الأهداف.
  • نزاهة القيادة.
  • ضبط الجبهة الداخلية.
  • احترام الإنسان ولو كان خصمًا.

سادسًا: تاريخية اللحظة… ورهانات المستقبل

ما يجعل هذا الخطاب فارقًا في مسيرة الجنرال، وفي تاريخ السودان المعاصر، ليس فقط محتواه، بل توقيت ظهوره. ففي الوقت الذي كانت فيه العاصمة منهارة بالأوبئة، والمعسكر الفلولي يستعد للزوال، والقوى الإقليمية ترقب بقلق، خرج القائد ليقول:

“لسنا جياع سلطة، بل بناة دولة، وإن كنا نقاتل بالسلاح، فإننا نحمل في قلوبنا السلام والعدل والحق.”

هذا التوازن بين القوة والانضباط، بين النصر والمراجعة، بين النخبة والمجتمع، يجعل من خطاب حميدتي علامة فارقة، تستحق أن تُدرس لا فقط كخطاب عسكري، بل كوثيقة تأسيسية يمكن أن تُستأنف بها دولة جديدة.

ختاما

لم يكن هذا الخطاب نصًا عابرًا في زمن الحرب، بل نبوءة سياسية وأخلاقية، تؤسس لميلاد سودان مختلف، يقوم على صدق القادة، ونزاهة السلاح، وكرامة المواطن.

“ألا إن نصر الله قريب”… ليست مجرد عبارة، بل وصية قائد يريد أن تكون خطوته الأخيرة حجر الأساس لسودان حر، عادل، واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!