عادل تاج الدين جار النبي: السودان بين نار الحرب و وباء الكوليرا

لم تعد الكوليرا في السودان مجرد أزمة صحية عابرة، بل أصبحت وجهًا آخر لانهيار الدولة. في ظل الحرب الدائرة، تحوّل هذا المرض القابل للعلاج في أي نظام صحي مستقر إلى مأساة جماعية، تُحصد فيها الأرواح دون صخب. ينتشر المرض بصمت في ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض والقضارف، يفتك بالفقراء والنازحين، حيث لا ماء نقي، ولا محاليل وريدية، ولا كوادر طبية، ولا حتى ضوء خافت في آخر النفق.
الأطباء الذين لم يفروا بعد، يعملون في ظروف لا تحتملها أبسط المرافق الطبية: كهرباء مقطوعة، نقص في الإمدادات، مراكز مدمرة أو مغلقة، ومرضى يُساقون إلى الموت دون حول ولا دواء. الحرب قضت على ما تبقى من بنية صحية، والحكومة غائبة أو منشغلة بحسابات المعركة، وكأن أرواح الناس لا تندرج ضمن الأولويات.
في هذه الفوضى، يطل علينا البعض بخطاب مكرر يطالب باستمرار الحرب، متدثرين بنظرية “بل بس”، التي تحوّلت إلى تبرير لكل شيء، حتى المرض والموت. يروّجون للوهم كأن الحرب قدر لا مهرب منه، ويتحدثون عن الشرف الوطني من أبراجهم العالية، بينما يموت الأطفال بسبب مياه ملوثة في أطراف البلاد. هؤلاء لا يعيشون معاناة النزوح، ولا يذوقون طعم الخوف، ولا يعرفون معنى أن يموت إنسان فقط لأنه لم يجد دواءً بسيطًا يعالج الكوليرا.
هؤلاء الذين ينادون باستمرار القتال، لا يرون الوطن كما يراه من يحفر قبر طفله بيديه. لا يسمعون صراخ الأمهات، ولا يشمّون روائح المرض، ولا يشعرون أن بقاء الوطن لا يعني بقاء البنادق، بل بقاء الإنسان. لم يفهموا بعد أن الكوليرا، كما الحرب، لا تنتج كرامة، بل تحفر خنادق من الحزن والعجز.
السودان اليوم لا يحتاج إلى مزيد من التنظير، بل إلى شجاعة تقطع هذا النزيف. وقف الحرب صار ضرورة، لا شعارًا سياسيًا. فتح الممرات الإنسانية لم يعد طلبًا إنسانيًا، بل مسألة حياة أو موت. الكوليرا ليست وباءً فقط، بل جرس إنذار بأن الوطن ينهار من الداخل، وأن الصمت على هذا الانهيار هو خيانة من نوع جديد.
وحده الإنسان من يدفع الثمن، ووحده يستحق أن تُحترم حياته قبل أن تُرفع فوقه رايات النصر المزعوم. الكوليرا ليست سوى صفحة من كتاب طويل اسمه “انهيار الدولة”، وقراءته بصوت مرتفع هو أول الطريق نحو إنقاذ ما تبقى من السودان.