عباس احمد: “ألا إن نصر الله قريب؛ حواشي حول خطاب الجنرال المهيب حميدتي”
الحلقة الثانية: نحو الشمال… الجيش يتحطم والدولة تنبعث

إذا كانت الحلقة الأولى قد وثّقت لحظة الانهيار العسكري لمتحرّك “الصياد”، فإن هذه الحلقة تحاول أن تقرأ ما بعد النصر: إلى أين تتجه قوات الدعم السريع؟ وما الذي أراد القائد العام إيصاله حين وجّه رسائل واضحة وصريحة إلى أهل الشمالية والأبيض؟ وهل نحن أمام تقدم عسكري عادي، أم أمام إعادة تعريف لطبيعة الدولة نفسها؟
أولًا: الزحف نحو الشمال… تصحيح الجغرافيا السياسية
في خطابه، أعلن حميدتي أن قواته تتجه نحو الشمالية، ليس في إطار الاحتلال أو السيطرة، بل في إطار “تحرير الأرض من قبضة عصابة الإخوان”، حسب توصيفه غير المباشر. وهنا لا بد من التوقف عند دقة الكلمات: “قوات الدعم السريع المتجهة نحو الشمالية عساكر خُلّص، ليس من بينهم شفّافة”. في هذه العبارة تلميح واضح بأن المرحلة القادمة تتطلب انضباطًا نوعيًّا لا يحتمل الفوضى أو التفلت، وأن قوات الدعم السريع أدركت درس الماضي، وتعلمت أن النصر الأخلاقي لا يقل أهمية عن النصر الميداني.
الشمالية، بهذا المعنى، ليست هدفًا عسكريًا فحسب، بل مسرحًا رمزيًا للصراع بين مشروعين: مشروع الإقصاء الذي تمترس هناك لعقود، ومشروع الانعتاق الوطني الذي يمثله الدعم السريع.
ثانيًا: رسائل الطمأنينة… الدولة لا تحتل مواطنيها
من أبرز ما ورد في خطاب القائد هو دعوته الصريحة لأهالي الشمالية والأبيض بـ”البقاء في منازلهم ومتاجرهم”، وهي عبارة تُفهم في سياقها كرسالة طمأنة بأن دخول الدعم السريع لا يعني دخولًا فوضويًا، بل حركة جيش وطني محترف له أهداف محددة، وليس جيش انتقام أو ثأر. هذه الرسالة كانت ضرورية في ظل التهويل الإعلامي الذي تمارسه ماكينة الفلول، والتي تروّج للرعب وتخويف المواطنين من القوات المتقدمة.
إنها محاولة ذكية لقطع الطريق أمام الدعاية المعادية، وتأكيد على أن الجيش الحقيقي لا يدخل المدن ليحطمها، بل ليحررها ويعيد إليها الحياة.
ثالثًا: الأبيض… المدينة التي عوقبت لأنها وقفت محايدة
توجيه الخطاب نفسه إلى أهل الأبيض يكشف كثيرًا من المعاني. فهذه المدينة، التي طالما عوقبت لأنها لم تنخرط في المعركة بالصورة التي يريدها الفلول، باتت الآن في قلب الخطاب الرسمي لقائد الدعم السريع. إن خطاب حميدتي هنا لم يكن عسكريًا بحتًا، بل حمّال أبعاد سياسية وإنسانية، يحاول من خلالها كسب تعاطف المجتمعات المحلية، وبناء أرضية شعبية تحت أقدام قواته المتقدمة.
لقد فهم حميدتي أن الحسم العسكري لا يكتمل إلا بالحسم السياسي والمجتمعي، وأن الكتلة الصامتة في المدن الكبرى هي من سيحسم المعركة في نهايتها. ومن هنا تأتي أهمية مخاطبة الأبيض كمجتمع، لا كأرض معركة.
رابعًا: الانضباط العسكري… حين تُبنى الدولة من الميدان
من أكثر فقرات الخطاب حساسيةً ودلالة، ما وجّهه القائد العام لقواته من تعليمات صارمة: عدم المساس بحقوق المواطنين، منع التفلتات، مرافقة المستشارين القانونيين للقوات، وعدم قتل الأسرى.
هذه ليست تعليمات فحسب، بل إعلانٌ صريح بأن معركة الدعم السريع لم تعد فقط ضد جيش الفلول، بل أيضًا ضد صورة مشوهة ظلّ الإعلام المعادي يكرّسها عن قوات الدعم السريع بوصفها “غير منضبطة”.
إن وجود المستشارين القانونيين في الميدان، بحسب أوامر القائد، يُظهر انتقال الدعم السريع من طور “القوة المتقدمة” إلى طور “القوة المؤسسية”، حيث تصبح المحاكم الميدانية ضمانًا للعدالة، لا أداة للبطش، وتصبح الدولة تُبنى لا من مكاتب الخرطوم، بل من قلب الميدان.
خامسًا: حميدتي بين القيادة والمراجعة
ما يلفت في هذا الخطاب أيضًا، هو جرأة القائد في الاعتراف بأخطاء بعض جنوده، وتعهّده الصريح بالتحقيق في حادثة قتل أسير دهسًا بإحدى العربات القتالية. لم يتوارَ خلف لجان، ولم يلقِ باللائمة على “طرف ثالث”، بل أعلن أنه سيفتح تحقيقًا، وتوعّد من تورطوا في الحادث.
هذه الروح من المساءلة العلنية، تُعدُّ تحولًا نادرًا في مشهد القيادات العسكرية في السودان، التي اعتادت على التبرير والتكذيب. إنها بذرة دولة جديدة تُزرع في تربة المعركة، وتُسقى بصدق القول لا بزيف الشعارات.