د. عبد الله علي إبراهيم؛ نموذج المثقف المنحاز عرقيًا والمتمترس جهويًا – حالة انهيار منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية
د.فاطمة الزين الغالي تكتب الخلقة الثالثة والأخيرة من مقالها

في خاتمة هذا المقال، لا بد أن ننظر إلى ما وراء اللحظة التلفزيونية العابرة، إلى جذور الموقف ومقدماته العميقة. فموقف الدكتور عبد الله علي إبراهيم من الحرب الجارية منذ أبريل 2023 ليس طارئًا، ولا هو وليد انفعال عابر، بل امتداد طبيعي لمسيرة طويلة من الانحيازات الجهوية والاستعلاء الطبقي الذي شكّل وعي هذا النموذج من المثقفين، الذين تمثلهم النخبة النيلية بامتياز.
لقد كان عبد الله علي إبراهيم ـ وما يزال ـ من أبرز مناوئي مشروع السودان الجديد، الذي نادى به الراحل الدكتور جون قرنق، لا لأنه يختلف معه فكريًا فحسب، بل لأن هذا المشروع، في جوهره، كان يهدد البنية العميقة لامتيازات الصفوة المركزية التي ينتمي إليها عبد الله. فقد رفض منذ وقت مبكر فكرة أن يأتي مشروع التحرير من الهامش، أو أن يتولى “ابن الجنوب” قيادة حركة تتجاوز الانتماء الجغرافي إلى مشروع وطني جامع.
لم يخجل عبد الله من أن يعبّر ـ تلميحًا وتصريحًا ـ عن رفضه لأن يكون ابن الهامش هو من يُنظر للدولة، ويقود المبادرة، ويقترح شكل الوطن القادم. وتجلّى هذا الموقف العدائي في سلسلة مقالاته ومداخلاته ضد الحركة الشعبية، وخاصة حين وجّه نقدًا مريرًا للدكتور منصور خالد، وزير الخارجية الأسبق والمفكر السوداني البارز، فقط لأنه اختار أن ينخرط في صفوف الحركة الشعبية ويعمل تحت قيادة قرنق. لقد رأى عبد الله في هذا القرار “سقوطًا” أو “خيانة للنخبة الشمالية”، وكأنه يقول ـ ضمنًا ـ إن ابن الشمال النيلي لا ينبغي له أن يخضع لقيادة من خارج هذا الصف الصفوي المحصن.
وكان رد الدكتور منصور خالد على هذا الاستعلاء مزلزلًا حين قال:
“عبد الله علي إبراهيم مثقف شمالي يعيش في عقلية نخّاس”،
كاشفًا بذلك عن الطبيعة الجوهرية لعقلية لا تزال ترى السودان في صورة السيد والتابع، المركز والهامش، الجذور النقية والفروع الزاحفة من خارج التاريخ.
عبارة منصور خالد تلك، وإن قيلت منذ سنوات، كانت مفتاحًا لفهم موقف عبد الله الراهن من الحرب. إذ لم يكن ما أظهره من انحياز للجيش وازدراء للدعم السريع، في لقائه على قناة الجزيرة، سوى ارتداد تلقائي لنفس العقلية التي لم تستطع ـ يومًا ـ أن تتقبل فكرة أن الهامش يمكن أن يكون فاعلًا، لا تابعًا؛ مبادرًا، لا مردودًا عليه. لذا لم يتحدث عبد الله عن عدالة القضية، أو جذور التهميش، أو مسؤولية المركز، بل انطلق مباشرة من توصيف “المليشيا” و”القومية” ليعيد إنتاج ذات المعجم العنصري الذي غذّى الانقسام الوطني لعقود.
ولأن القيم الفكرية لا تُقاس بما يكتبه المرء في كتبه، بل بما يختاره في اللحظات الحرجة، فإن عبد الله علي إبراهيم، وهو في قمة الأزمة الوطنية، اختار أن يتمترس خلف خندق العرق والجهة، بدل أن يقف في منطقة القيم التي طالما تشدّق بها في كتاباته عن الديمقراطية، والتحول، والتعددية. وكما خان المثقف المفاهيم، خان عبد الله علي إبراهيم الوطن، لا بمعنى الخيانة القانونية، بل خيانة الرؤية، خيانة الالتزام، خيانة الإنسان.
هذا السقوط الفكري ليس خاصًا بعبد الله وحده، بل هو مرآة لتصدع النخبة السودانية التي استنكرت كل ما يأتي من خارج قريتها الآمنة، وصادرت على كل صوت لا يحمل سحنة الشمال، أو لكنة المركز، أو سيرة المدارس الإرسالية والنادي القبطي. ومثلما ضاقت هذه النخبة من قبل بتجربة منصور خالد، فإنها تضيق اليوم بصعود قوى جديدة من خارج أسوارها التاريخية، ولذلك تصطف ـ بكل أدواتها الرمزية ـ لتشويه أي تجربة لا تمر عبر ممراتها التقليدية.
إن من ينتقد منصور خالد لأنه اختار أن يعمل مع قرنق، هو ذات العقل الذي لا يرى في الحرب سوى “حرب تمرد”، لا يعرف من السودان إلا المثلث، ولا من الثقافة إلا ما دوّنه المستعمر في سجلات النخبة. وبين موقفه من منصور خالد بالأمس، وموقفه من الحرب اليوم، يثبت عبد الله علي إبراهيم أنه ليس سوى وريث متجدد لعقلية الإقطاع الثقافي التي لا ترى في السودان إلا ما تراه أعينها، وتبغض كل ما لم يتكوّن في بيوت الطين المطليّة بالكبرياء الزائفة.
هكذا، وبلا مواربة، انكشف الغطاء، وسقط التزييف. لم يكن عبد الله يوما مفكر عدالة، بل كان صوت امتياز مغلفًا ببلاغة. واليوم، حين سال الدم، لم يكن مع الضحية، بل مع القاتل، فقط لأنه “من أبناء الجماعة”.
ولعلنا نختم بما قاله مرة الدكتور منصور خالد في إحدى مقالاته:
“أخطر ما يُمكن أن يواجه الوطن ليس استبداد الجنرال، بل خيانة المثقف”.
وقد خان المثقف.