
منذ الاستقلال، لم تكن الدولة السودانية سوى مشروع سلطوي تمحور حول مركز ضيق احتكر القرار، واستند إلى القوة العسكرية، وتواطؤ نخب مدنية غارقة في الامتيازات التاريخية. لم يكن هذا المشروع يومًا في خدمة الوطن والمواطن، بل كان ضدهم، وموجّهًا لترسيخ الهيمنة، واستبعاد الشعوب المهمّشة، وإسكات كل صوت مختلف.
وما تعرّض له السودان من حروب، وخصوصًا ما نعيشه اليوم من دمار شامل، ليس نتيجة قوى خارجية فحسب، بل نتيجة اصطفاف داخلي مشين. فقد مارست قطاعات واسعة ممّن يُطلق عليهم لقب “مثقفين” – من كتّاب، وإعلاميين، وسياسيين، وشعراء، وفنانين – نوعًا من التماهي المخجل مع السلطة العسكرية المركزية، وارتضوا عن وعي أن يكونوا أدوات في خدمة الظلم والتمييز.
لقد شكّلت الحرب الحالية لحظة انكشاف كبرى؛ إذ صعد إلى السطح ذلك الخطاب العنصري المتعالي الذي يحمله بعض أبناء المركز السياسي والثقافي، فمارسوا التحريض والكراهية ضد مكوّنات اجتماعية بعينها، وحرّضوا ضد كل من يطالب بتفكيك الدولة المركزية لصالح سودان متعدّد، عادل، وديمقراطي.
لا يمكننا أن نتجاهل الدور الكارثي الذي لعبته النخب المدنية في دعم الجيش، رغم تاريخه الدموي في قمع الثورات، وإشعال النزاعات، وحماية أنظمة الاستبداد، منذ عبود، مرورًا بالنميري، وحتى البشير والبرهان. جيشٌ لا يكتفي بالقمع، بل يفرّخ الميليشيات، ويدير الحروب بالوكالة، ويصادر الثروات لحساب قوى داخلية وخارجية، أبرزها الدولة المصرية، التي تعامل السودان كحديقة خلفية لها.
في هذه الحرب، رأينا الوجه الأكثر وحشية لهذا الجيش. ظهرت كتائب القتل والذبح، وارتُكبت مجازر مروعة بحق المدنيين، من النساء والأطفال، في جرائم وثّقتها منظمات دولية لا تُشكّك في صدقيتها. ورغم كل ذلك، واصل بعض الأكاديميين والمفكرين -وعلى رأسهم الدكتور عبدالله علي إبراهيم- دفاعهم المستميت عن الجيش، متمترسين خلف خطاب قوميّ مفلس، وعنصرية مقنّعة بعبارات النخبوية.
إننا نعيش اليوم انهيارًا أخلاقيًا وفكريًا لنخبٍ فقدت حسّها التاريخي، فارتبطت بمؤسسات القمع لا بحركات التحرر. وتحوّل كثير منهم إلى ما يشبه الكهنة الذين يبرّرون الاستبداد، ويبرّئون القتلة، ويُدينون الضحايا، فقط لأنهم من خارج “نطاق الامتياز”.
لقد تجاوز الزمن دولة 1956، بعقليتها المركزية ومؤسستها العسكرية المختطفة. ولم يعُد ممكنًا التستر على الاستبداد بعباءات أكاديمية، ولا تبرير القتل باسم السيادة الوطنية. فالعنصرية، إن لبست الزي العسكري أو لبست روب الأستاذ الجامعي، تظل عنصرية. والاستبداد، إن نُفّذ بالرصاص أو بالحبر، يظلّ جريمة.
ولن ينجو الجنرال إن تغطّى خلف الدكتور، ولن يُعفى المثقف إن بارك الاستبداد وشرعن الإبادة.