رأي

 الديمقراطيون السودانيون .. الصوت الصَّارخ في البريَّة

منعم سليمان

بعد أكثر من عامين من الحرب التي ألقت بظلالها الكثيفة على السودان، بدأت ملامح الإدراك تتسلّل إلى دوائر القرار العالمي، كما يتسلّل الضوء الخافت في نهاية النفق. ففي 3 يونيو 2025، اجتمع نائب وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر لاندو، بسفراء الرباعية لدى الولايات المتحدة – من الإمارات، والسعودية، ومصر – ليخلص الجميع إلى حقيقة باتت بديهية، وهي: أن هذه الحرب، مهما طال أمدها، لن تُحسم عسكريًا، ولا سبيل للخروج منها سوى عبر التفاوض.

 

الموقف ذاته أكّدته مبعوثة الاتحاد الأوروبي لمنطقة القرن الإفريقي، أنيت ويبر، في مقابلة أمس مع قناة (الجزيرة)، مشيرةً إلى أن استمرار القتال غير مقبول، وأن الخراب الناجم عنه لا يمكن احتواؤه إلا عبر تسوية سياسية.

 

هذا الإدراك، الذي يتردّد اليوم في أروقة واشنطن وبروكسل، وفي مناطق كثيرة من افريقيا والشرق الأوسط، لم يكن كشفًا دبلوماسيًا مبهرًا، بقدر ما هو تكرار لصوتٍ ظلّت القوى الوطنية الديمقراطية -وأتشرف بانتمائي إليها- ترفعه منذ اللحظة الأولى لانفجار هذه الحرب الكارثية. فقد دعت، بوضوح ومسؤولية وطنية، إلى حلّ سياسي سلمي، بعيدًا عن أوهام الحسم العسكري، فكان جزاؤها التشهير والتخوين والاتهام بالعمالة.

 

لقد تصدّر الإسلاميون (الكيزان)، ومن يقف خلفهم من الغوغاء، وأبواق السلطة، والمخدوعين من البسطاء، حملة شيطنة شرسة ضد كل من نادى بالسلام، ووُصم كل صوتٍ وطني عاقل بالخيانة والتواطؤ، لمجرّد أن الدعوة إلى الحوار السياسي والتفاوض تجاوبت معها قوات الدعم السريع، بينما ظلّت قيادة الجيش موصدة أبوابها أمام أي مبادرة سياسية.

 

والحقيقة التي لا شك فيها أن قوات الدعم السريع، رغم كل ما يُثار حولها، كانت الطرف الأكثر تجاوبًا مع المبادرات السياسية الوطنية، وكذلك مع المبادرات الإقليمية والدولية: من جدة إلى المنامة، وحتى جنيف. في المقابل، بقي الجيش أسيرًا لخطاب الكيزان: خطاب الكذب والغطرسة والإنكار، المشدود دومًا إلى فوهة البندقية. وكانت النتيجة، على النحو المؤسف الذي نراه أمامنا اليوم: أضحى الجيش كالمُنبتّ؛ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى!

 

لقد بات واضحًا للعالم اليوم أن هذه الحرب لم تكن يومًا صراعًا من أجل الدولة، بل كانت مشروعًا مضادًا لها، مشروعًا صاغه الإسلاميون في غرف الظلام، وأطلقوه بوقود الجيش ليعودوا إلى سلطة لفظهم منها الشعب.

 

لكن رهانهم، ككل رهاناتهم، انهار. فالميدان السوداني، بكل تضاريسه الوعرة ومعاناته المتجذّرة، لم يفتح لهم أبوابه، بل كشف عُريهم السياسي والعسكري. وكلما صعّد قائدُ الجيش، البرهانُ، خطابَ القضاء والحسم، تمدّد الدعم السريع أكثر، واخترق ما تبقّى من جغرافيا الدولة المتهالكة. وما انتصاراته الأخيرة في كردفان إلا إحدى شهادات الواقع التي تُكذّب خطاب الإنكار الذي يتبنّاه البرهان، وتبنّاه بعده “دميته” الذي نصّبه رئيسًا لوزراء سلطته القاصرة والناقصة في بورتسودان، وقد تحوّل سريعًا إلى ببغاء يردّد لغة الحرب والبندقية، ويُطلق الوعود الفارغة في الهواء المُلوّث بالكيماوي وبِرائحة الدم!

 

الدرس الأكبر الذي تُقدّمه هذه الحرب للعالم، بعد أن أحرقت الأخضر واليابس في بلادنا، هو أن اختطاف القرار العسكري من قِبَل (الكيزان) لا يُنتج دولة، بل رمادًا. فقد حوّلوا الجيش من مؤسسة وطنية إلى سلّم وذراع لثأر أيديولوجي، ظنًّا منهم أنهم قادرون على إعادة تدوير التاريخ. لكنّ التاريخ لا يُعيد نفسه إلا كمأساة أو مهزلة، فانتهت حربهم إلى مأساة، ونتائجها عليهم إلى مهزلة كبرى.

 

ولذلك، فإن ما توصّل إليه العالم اليوم؛ من واشنطن إلى بروكسل، ومن الرباعية إلى الاتحاد الإفريقي، ليس سبقًا دبلوماسيًا، بل تراجعٌ متأخّر إلى الحقيقة الأولى: لا سلامَ من دون تفاوض، ولا تفاوضَ مع من أشعل الحرب.

 

على البرهان، إن كان ما يزال يحتفظ بشيءٍ من البصيرة – وأشكّ في ذلك من موقع معرفةٍ سابقةٍ قريبةٍ به- أن يُدرك أن مشروع إعادة الكيزان إلى الحكم وهمٌ يُطارد السراب، وأن النصر العسكري الذي يُعد به مشغّلوه وحلفاؤه وأنصاره ليس سوى سرابٍ بقيعة. وإذا أراد أن يحصد ثمار هذه الحرب، فلن يجد إلا الخراب. وإن أصرّ على حرث البحر، فسيشرب من مائه المالح ولا يرتوي.

 

لن يتحقق السلام والاستقرار في بلادنا بالبندقية، بل بالكلمة التي يتم التواثق عليها بالحق والصبر. ولن يمرّا عبر خطابات الكراهية والتطهير، بل عبر حوار وطني جاد، تُستبعد منه كل القوى التي انقلبت على الشعب وأشعلت الحرب ضده، ويُعاد فيه الاعتبار للصوت الديمقراطي المدني الوطني المتعقّل، ذلك الصوت الذي وُئد بالتخوين، ثم بُعث الآن على ألسنة العالم.

سلامٌ على الديمقراطيين الوطنيين المتّسقين في العالمين.

 

عيد سعيد وكل عام وأنتم بخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!