يوميات شاهد على استخدام الإخوان للسلاح الكيميائي في معارك أم درمان القديمة
الجزء الثاني: الغاز الذي لم نره… لكنه قتلنا جميعًا

التنوير: خاص
لم نسمع صوت انفجار، لم نرَ قذيفة تنفجر أو طائرة تحلق. كل شيء بدا في البداية طبيعيًا، أو هكذا كنا نظن. لكن الحقيقة، كما عرفنا لاحقًا، كانت أن الموت نزل من السماء بلا صوت، بلا دخان، بلا إنذار… فقط غازٌ خفيّ، قاتل، لا يُرى، لا يُشم إلا حين يفوت الأوان.
كل من نجوا في محيط المعركة رووا نفس القصة: “الهواء بقى تقيل”، “الزفير بيحرق”، “الجلد بدا يلسع”، ثم الدوار، القيء، السقوط المفاجئ. بعضهم مات خلال دقائق، بعضهم تلوّى لساعات، عيونه مفتوحة في انكسار لم نعهده في رجالٍ واجهوا الموت بالرصاص لأشهر.
في أحد الأزقة، وجدت خمسة جنود متحلّقين حول مدفع مضاد للطيران. كلهم متجمدون في أماكنهم، كأن أحدًا أوقف الزمن. من يراهم قد يظن أنهم نيام، لكن أجسادهم التي تحولت إلى لون أزرق قاتم تقول غير ذلك.
ما حدث لم يكن نتيجة قتال، لم يكن كرًّا ولا فرًّا. كان تنفيذًا حرفيًا لجريمة إبادة بالوسائل الكيماوية. لم نرَ الغاز، لكنه كان هناك. زحف على الأرض، تسلل عبر النوافذ، دخل في صدور المقاتلين والناس، ولم يترك أحدًا.
أحد زملائنا من وحدة الهندسة الكيميائية، حين سمع بما جرى، جاءنا ومعه أدوات بدائية للتحليل. لم يكن يحمل سوى ماسك واقٍ بسيط، وقنينة اختبار. أخذ عينة من أحد خزانات الماء التي تغير لونها. لم يحتج لوقتٍ طويل، قال لي:
“دي مش موية. دي سلاح سائل. نوع من الفوسفور أو الخردل… ما حاجة بنقدر نتعامل معاها بإيدينا الفاضية.”
في كل زاوية، علامات لا يمكن تفسيرها بالسلاح التقليدي: جلد مسلوخ، دم متجلط في الأنف والأذن دون إصابة، جثث دون جرح واحد، لكنها هامدة. الأطفال الذين بقوا في الأحياء المجاورة أصيبوا بأعراض تشبه الحمى الدماغية. الكلاب والقطط النافقة تُركت دون أن تقترب منها الحشرات. الهواء نفسه أصبح خطرًا.
وهنا كان السؤال الذي لم أعد أتحمله:
من أدخل هذا الغاز؟ ومن أعطى الإذن باستخدامه؟
منذ شهور نسمع عن “الوفود الإيرانية” التي تزور مناطق الجيش في الظلام. عن الفنيين الذين لا يتحدثون إلا بالفارسية. عن الحرس الثوري الذي صار يُشرف على مستودعات لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها.
وقتها لم نرَ العلاقة بين تلك التحركات وهذه الجريمة. لكن اليوم، ونحن نجمع جثث زملائنا، ونسجل أسماء الضحايا الذين ماتوا دون جراح، نعلم أن الربط لم يعد مجرد شك.
المجموعات المرتبطة بالإخوان كانت الطرف الذي نُقل إليه هذا السلاح، ليتم اختباره في ساحة معركة حقيقية، على بشر حقيقيين، في مدينة حقيقية اسمها “أم درمان”.
لكننا لسنا مجرد فئران تجارب.
نحن أصحاب ذاكرة. وما حدث، لن ننساه.