رأي

إعمار الخرطوم في زمن الحرب: استغفال المانحين واستهبال الشعب (1-2)

صالح السليمي

الحلقة الأولى:

إعادة الإعمار بين المبادئ الدولية والحالة السودانية المشوهة

في أدبيات الاقتصاد السياسي، وتحديدًا في سياق الدول الخارجة من الحروب أو التي تمر بظروف نزاع مسلح، تُمثّل عمليات إعادة الإعمار مرحلة بالغة التعقيد، لا ترتبط فقط بإصلاح المباني والمرافق، بل بتضميد جراح المجتمعات، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، وخلق أساس متين لسلام دائم وتنمية شاملة. غير أن ما يُطرح اليوم في السودان، من دعوات لإعمار الخرطوم بينما الحرب لا تزال مشتعلة، يبدو أقرب لمحاولة استغفال فاضحة للمجتمع الدولي، واستهتار غير مسبوق بالشعب السوداني، واختزال مشين لفكرة الإعمار في مجرد عقود “مقاولات ومصالح”.

أولاً: مبادئ إعادة الإعمار المتعارف عليها دولياً

تستند عمليات الإعمار الجادة إلى جملة من المبادئ الأساسية التي طوّرتها الأمم المتحدة والبنك الدولي وصناديق التنمية الكبرى، أبرزها:

1. تحقيق السلام ووقف إطلاق النار الشامل، باعتباره شرطًا ضروريًا لانطلاق أي مسار إعمار.

2. المشاركة المجتمعية في تحديد الأولويات، لضمان تلبية الاحتياجات الحقيقية للمتضررين.

3. الشفافية والمساءلة في إدارة التمويل وتخصيص الموارد.

4. إجراء تقييم شامل للأضرار، يعتمد على دراسات ميدانية دقيقة تشمل البنية التحتية، والخدمات، والوضع الاجتماعي والنفسي للمواطنين.

5. بناء مؤسسات فعالة لضمان الاستدامة، وتفادي إعادة إنتاج أسباب الحرب.

6. تضمين مقاربة العدالة الانتقالية، لمعالجة مظالم الماضي.

كل هذه المبادئ تنهار كليًا أمام مشهد الإعمار الذي يُراد فرضه على الخرطوم اليوم. فالخرطوم لا تزال تحت القصف والحصار والتجويع، والمرض، والدولة نفسها غائبة عن أجزاء واسعة منها.

ثانياً: شروط النجاح في تجارب الدول الأخرى

تُظهر تجارب مثل رواندا بعد الإبادة الجماعية، ولبنان بعد الحرب الأهلية، أن نجاح إعادة الإعمار مشروط بوجود:

• إرادة سياسية حقيقية للسلام؛

• إطار قانوني وتنفيذي واضح؛

• دعم شعبي وثقة مجتمعية؛

• وشراكة شفافة مع المانحين، قائمة على رؤية متفق عليها وطنياً.

أي من هذه الشروط غير متوفرة في السودان الحالي، بل الأسوأ أن السلطة المتحدثة باسم الإعمار هي ذاتها المتهمة بتغذية الحرب، وتمويلها، واستغلالها لمصالح نخب ضيقة.

ثالثاً: الفجوة بين الأسس العلمية والواقع السوداني

إعادة الإعمار تبدأ بدراسات فنية متكاملة: تقييم للأضرار، مسح للأولويات، تحليل لواقع الخدمات، تقدير للكلفة، وتخطيط زمني ومكاني. أما في السودان، فالدعوة تأتي عبر مؤتمر صحفي مرتجل، ودون أي مسح ميداني أو تقييم منهجي، أو إشراك للنازحين الذين يمثلون الكتلة الأكبر من المتضررين.

فأي إعمار يُراد؟ ولمن؟

ومن يملك حق التخطيط والإنفاق في غياب برلمان أو حكومة متوافق عليها ومعترف بها من قبل الشعب على الاقل؟

وكيف يُعقل أن يتحدث عن انفاق الملايين في مشاريع “فوق الأرض”، بينما الناس لا تجد ماءً أو دواءً أو طعامًا؟

إنها نسخة مقلوبة تمامًا من مفهوم الإعمار، تُوظّف فقط لغرض النهب المنظّم، وتوزيع الكعكة بين شبكات السلطة والحرب، وخلق مظاهر زائفة من “الشرعية الدولية”، على أكتاف دماء المدنيين وخراب العمران.

رابعاً: ازدواجية المعايير المحلية

الواقع أن حديث الإعمار هذا ليس سوى أداة علاقات عامة، موجهة نحو الخارج، وخصوصًا نحو الدول الخليجية التي يُراد منها دفع الفاتورة، تحت عناوين “إنقاذ الخرطوم” و”إعادة الاستقرار”. بينما لا توجد أي نية لإجراء مصالحة وطنية حقيقية، ولا رغبة في وقف الحرب أو تقليص معاناة الناس.

خلاصة الحلقة الأولى:

إن ما يُطرح اليوم في السودان تحت لافتة “إعادة إعمار الخرطوم” لا يتسق بأي شكل من الأشكال مع المبادئ الدولية، ولا مع الشروط الموضوعية لنجاح الإعمار، بل هو مشروع لشرعنة النهب وشراء الوقت، وإعادة تدوير الحرب في شكل “منافع اقتصادية”.

وإذا لم يُوقف هذا العبث، فإننا لا نتحدث عن إعمار، بل عن نسخة معاصرة من الفساد في زمن الحروب.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!