منال علي محمود

فخامة الجهل وبلاغة التواطؤ: العوقة الكمييلية على نغمة الدلاهة
دكتور الوليد، شكرا على هذا التشخيص القاسي والصحيح لعطب الخطاب السياسي في السودان، لكنني أرى أن (العوقة) التي تمثلها شخصية مثل كمييل إدريس ليست مجرد أزمة خطاب أو جهل مؤقت، بل هي حالة مرضية مزمنة في جسد هذا الوطن المسكين.
حين يقال إن خطاب كمييل إدريس ليس أكثر من (بيان نوايا شخصية) أو (وهم مغلف بعبارات رنانة)، لا بد أن نضيف أن هذه العوقة لم تتعلم من سنوات الانتظار الطويلة، ولم تدرك أن المشهد الذي جاء منه هو أكثر من اهتزاز، هو انهيار على شكل إنسان. لا يتكلم باسم شعب ولا وطن، بل يتحدث باسم (ظل) يرسمه الجنرالات ليظهرهم في ثوب (مدني) مزخرف، حتى لو كان هذا الثوب ثقيلا ومحكما بالغش والخداع.
أن يختار السودانيون هذا النوع من القادة ليمثلهم في لحظة لا تحتمل هزل السياسة، ليس غلطة فحسب، بل هو استمرارية لطريقة الإفساد التي رافقت الدولة المركزية منذ زمن بعيد. (معركة الكرامة الوجودية) التي يعلنها كمييل هي كذبة مقنعة، تعبث بمشاعر شعب غارق في الدم والدموع، شعب لا يجد حتى كرامته في صرخات أمهات الجنينة أو جوع أطفال الفاشر.
وإذا كان الحديث عن الاقتصاد مجرد تكرار لموعظة في قاعة مظلمة، فتلك ليست خطة إنقاذ، بل لعبة مملة تلعب على حساب مستقبل الأجيال القادمة. لا أرقام، لا ضمانات، لا أمن، ولا حتى وعود ذات معنى. في بلد تباع فيه أراضيه وموانئه ومصانع السكر بالدولار، يتحدث كمييل عن الزراعة والصناعة كما لو أننا في دولة سويدية ميسورة.
أما السياسة، فهي طبل مكسور يعيد ترديد لحن (الحوار الوطني) المعلق في فراغ، من دون تعريف من هم المشاركون أو ما هي الضمانات، وكأنه يخاطب شعبا لم يقدم شهداء ولم يناضل. هذا التجاهل للثورة وللشعب هو تحايل بطيء على واقع دام، ومحاولة لإخراج السلطة العسكرية من الباب، وإدخالها من النافذة تحت قناع مدني مزيف.
( *هذه ليست نكتة* ). بل من واقع وزيرا صنع تمثالا ليرجمه، ودفاعا مدنيا أتي بقونة تطفي نيران مستودع وقود على ترددات صوتها، وآخرون كثرت أحلامهم وصارت مرجعية اتخاذ قرار في هذه البلد الظالم أهلها. (كمييل إدريس) نفسه سياتيه في المنام من يقول له (إني أرى انك تذبحهم كما كما ذبح الثور الأسود من قبل).
هكذا تصنع فخامة الجهل وبلاغة التواطؤ، على أنغام الغفلة الجماعية، وتحت أضواء كاميرات مشروخة، يعاد تدوير الوهم وتقديمه كبرنامج سياسي مع اصبع ممشوق وترديد الله اكبر.
كفى عبثا. لسنا بحاجة لمزيد من الكوابيس المتلفزة ولا لأشباه أنبياء يتهجون الوطن كأنهم على خشبة مسرح فارغ. لا نريد من يحدثنا عن الحرية وهو واقف في ظل الدبابة، ولا من يبيعنا شعارات مغموسة في عسل التطبيع وملح الخيانة.
لقد وعى هذا الجيل – رغم الدم والجوع – أن الكرامة لا تأتي على يد (كمييل ناعم)، ولا الثورة تنقذها رؤى المنام ولا طبول الفساد المغطاة بقماش المدنية. إن الذين استباحوا حاضرنا باسم الوطنية، لن يقيموا مستقبلا إلا على جماجمنا.
(هذه بلادنا، لا تدار بالأحلام، ولا تستعاد بخطب الجهال).
(وسنرجم الأصنام واحدا تلو الآخر، حتى يستقيم هذا الوطن أو ندفن واقفين