رأي

كيف يستقيم الظل والعود أعوج 99؟

الصديق المريود

في لحظةٍ من لحظات العبث السياسي التي ما عادت تُدهش أحدًا، اعتلى كامل إدريس منصة الخطاب ليعلن بداية عهدٍ لا جديد فيه، سوى نُسَخٍ مشوهة من شعارات قديمة، وخطابة منمقة بلُغات أجنبية، تُلقي بظلالها على واقع يُقاوم فيه المواطن الموت لا بالكرامة، بل بكسرة خبزٍ وشربة ماء.

 

جاء كامل إدريس إلى رئاسة وزراء بورتسودان محمولًا على أكتاف حكومة الإسلاميين، ذات العصبة التي أذاقت البلاد ثلاثين عامًا من الويلات، ثم أعادت إنتاج نفسها بدموية أشد، وأعلنت الحرب على بقية السودان، مستخدمةً كل ما تيسر من أدوات القهر والدمار. حكومة تقصف بطائراتها الأسواق، وتغمر القرى بالأسلحة الكيماوية المحرّمة دوليًا، وتُبقر بطون النساء، وتقطع رؤوس الرجال، وتسن قانون “الوجوه الغريبة” الذي لا يُبقي ولا يذر، وكأنها خرجت من كوابيس التاريخ لا من رحمة الجغرافيا.

 

وفي خضم هذه المأساة، كان ينتظر البعض أن يُطلّ علينا رئيس وزراء يحمل بارقة أمل، أو على الأقل، خطابًا يُعبر عن واقع الدم والدموع. فإذا بنا أمام رجل يفتتح أولى كلماته بمصطلحات مستلفة من قواميس الفاشية، إذ وصف الحرب التي تحرق البلاد بـ”حرب الكرامة”! وكأن الكرامة تُطلب بإبادة المدنيين، وحرق القرى، وتشريد الملايين.

 

تخيّلوا! من بين كل مفردات اللغة، اختار “الكرامة” ليوصف بها قصف الأسواق بالبراميل، وإحراق البيوت، وقتل النساء، والأطفال، والشيوخ. فبأي عقلية يُدار خطاب كهذا؟ وأي شرف هذا الذي يُبنى على جماجم الأبرياء؟ قال المتنبي يومًا:

 

“وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ… فهي الشهادة لي بأني كاملُ”،

لكننا اليوم أمام “كامل” من نوع آخر، نُصِّب ليُكمل مأساة، لا ليخترقها.

 

وما أن بدأ خطابه، حتى شرع يقرأه بالعربية، ثم الإنجليزية، فالفرنسية، ثم الإسبانية، وكأن شعب السودان ينتظر الخلاص من خلال القاموس لا القرارات. بدا المشهد هزليًا، كعرضٍ مسرحي في مؤتمر اليونسكو، لا بيان طارئ في لحظة حرب وطنية. أحد الظرفاء قال ساخرًا: “الزول ده قايلنا فصول محو أمية متعددة اللغات؟”، وقال آخر: “كنا عايزين زول يطفّي الحريقة، جانا زول جاب ليها قاز عشان يشعلها بثلاث لغات!”

 

المُضحك المبكي أن الرجل الذي يُسوّق له البعض على أنه دبلوماسي قدير وذو علاقات دولية واسعة، لم يسبق له العمل في أي من المؤسسات السياسية المؤثرة عالميًا. كانت تجربته في مجال الملكية الفكرية، وهو ميدان محترم طبعًا، لكن لا علاقة له بالسياسة الدولية، ولا بملفات السلام، ولا بالتفاوض في أزمنة الحرب. فهو لم يكن في مجلس الأمن، ولا مفوضية حقوق الإنسان، ولا مجلس العلاقات الخارجية. ومع ذلك، ظل إعلام النظام يسوّق وهمًا بأن الرجل يملك مفاتيح أوروبا وأمريكا بجيبه، وسيفتح بها بوابات الدعم والعلاقات الدولية. وكأن مشكل السودان في اللغة، لا في الرؤية.

 

ومن المضحكات التي تكاد تُبكي، أن كامل لم يجد في خطابه ما يُقنع الناس، فقرر أن يستعرض قدراته اللسانية، بدل أن يُقنعهم بخطة، أو رؤية، أو موقف. هذا الشعب الذي ظل يُصفع صباح مساء، لا يحتاج لمن يُجيد اللغات، بل لمن يُجيد قول كلمة حق في وجه سلطان جائر. قال الراحل محمود درويش:

 

“الناس في بلادي يموتون، لكي يقولوا: نحن هنا!”

لكن خطاب كامل لم يقل “نحن هنا”، بل قال: “أنا هناك”، في جنيف، أو مدريد، أو باريس… لا ندري.

 

الذين هللوا له على أمل أن يحدث اختراقًا في العلاقة مع الغرب، تناسوا أن البرهان، الذي عينه، ظل لأكثر من عامين يطوف العواصم فلم يجلب إلا المزيد من العزلة. فهل يُعقل أن يُحدث موظف سابق في منظمة متخصصة في براءات الاختراع اختراقًا في ملفٍ أعجز الجنرالات والسياسيين؟ المشكلة ليست في جواز السفر، بل في مشروع الدولة الذي يفتقرون إليه.

 

وعلى الصعيد الداخلي، يواجه كامل معضلة أكبر من الخارج: تشكيل حكومة تُرضي كل من يرى نفسه أحق من غيره، في كعكةٍ أصبحت يابسة لا تُشبع. الصراعات الجهوية، والمحاصصات الحزبية، والتجاذبات العقائدية، كلها كفيلة بتحويل مهمته إلى حقل ألغام. فإذا قسم الكعكة بالعدل، غضبت الحركات. وإذا ظلم، غضب الهامش. وإن أرضى البرهان، خسر الشعب. وإن حاول الاستقلال، سُحب منه الكرسي.

 

الأدهى من ذلك، أن حكومته تواجه اتهامات باستخدام الأسلحة الكيماوية، وهي تهمة لا تنفع معها الفرنسية ولا الإسبانية، بل تحتاج إلى شجاعة سياسية وموقف وطني حاسم، وهو ما لم نره في خطابه، الذي كان أقرب إلى نشرة تعريفية بسيرته الذاتية منه إلى بيان سياسي في لحظة مصيرية.

 

والشعب، يا كامل، لم يعد يثق في الخطابات. الشعب يريد أفعالًا، لا أناقة لغوية. الشعب يريد وقف القتل، لا فنون البلاغة. يريد خبزًا لا خطبًا، وماءً لا مؤتمرات. الشعب لا يأبه لمن يتحدث بأربع لغات، بل يسأل: “متى تتوقفون عن قتلنا بلغة الصمت؟”

 

وختامًا، لا نظن أن من أتى به البرهان، ورضي أن يكون ظلًا لحكومة قاتلة، يمكن أن يكون ظلاً مستقيمًا. فالعود أعوج. ومن شبّ على الكذب، لن يصدُق فجأةً حين يكبر. من تربّى في كنف نظامٍ لا يؤمن بالحوار، ولا يعرف غير فوهة البندقية، لن يُخرجنا من هذا النفق، مهما قرأ بالفرنسية أو أنشد بالإسبانية.

كما قال الشاعر:

“ومن كان الغراب دليلَ قومٍ… يمرّ بهم على جيفِ الكلابِ.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!