إعمار الخرطوم في زمن الحرب: استغفال المانحين واستهبال الشعب (2-2)
وقف الحرب وتحقيق السلام: الشروط الأساسية لأي إعمار حقيقي

في الحلقة الأولى، بيّنا أن الحديث عن إعادة إعمار الخرطوم في ظل استمرار الحرب، ليس سوى محاولة مكشوفة لاستغباء المانحين واستهتار بمعاناة شعب أنهكته المجازر والتشريد والدمار. أما في هذه الحلقة، فننتقل للحديث عن الشرط الحاسم لأي عملية إعمار ذات معنى: وقف الحرب وتحقيق السلام الوطني الشامل، باعتبارهما المفتاح الحقيقي لاستجابة المجتمع الدولي، وأساس أي نهج جاد لإعادة البناء والتنمية.
أولاً: الحرب والإعمار خطّان متوازيان لا يلتقيان
كل تجارب ما بعد النزاعات، من البوسنة إلى أفغانستان، أثبتت أن الإعمار لا يمكن أن يتم تحت القصف أو في ظل انقسام السلطة وتعدد الولاءات. لا يمكن بناء مستشفى في منطقة يُقصف محيطها كل أسبوع، ولا يمكن تشييد مدرسة بينما المعلمون نازحون والتلاميذ مشردون، ولا يمكن الحديث عن بنى تحتية في ظل فوضى أمنية وهيمنة السلاح.
إن منطق الحرب يقوم على التدمير، بينما منطق الإعمار يقوم على التعمير. ومن يتبنى الاثنين معًا إنما يتربّح من التناقض.
ثانيًا: السلام شرط رئيس لاستجابة المانحين
المجتمع الدولي – لا سيما المانحين الخليجيين والأوروبيين – لا يتعامل مع ملف الإعمار بمنطق “المساعدات المشروطة فقط”، بل بمنطق “الاستثمار في الاستقرار”. فالدول لا تموّل مشاريع إعمار في بيئة معرضة لإعادة التدمير، ولا تموّل حكومات فاقدة للسيادة أو مفتقرة للشرعية السياسية، ولا تضع أموالها في بلد لم تتضح فيه خارطة الطريق نحو السلام.
ومن هذا المنطلق، فإن أي محاولة للحصول على دعم مالي ضخم من الشركاء الخليجيين أو الغربيين دون وقف الحرب وتحقيق الحد الأدنى من الإجماع الوطني، ستكون محكومة بالفشل. وإن نجحت، فلن تكون إلا عبر “بوابة الفساد” والتواطؤ السياسي، لا عبر القنوات التنموية الحقيقية.
ثالثًا: الإعمار يبدأ بالمصالحة لا بالمقاولات
ما يُبنى في المجتمعات المدمّرة لا يبدأ بالإسمنت والطوب، بل يبدأ بـ:
- رد الاعتبار للضحايا،
- إطلاق سراح المعتقلين السياسيين،
- الاعتراف بالأخطاء والجرائم،
- وفتح أبواب المشاركة الوطنية الواسعة لصياغة رؤية ما بعد الحرب.
في السودان اليوم، لا تزال سلطة الأمر الواقع تُقصي، وتشيطن، وتناور، وتُكرّس خطاب الحرب والكراهية، وفي ذات الوقت تسعى لتسويق نفسها كقائدة لمسار “الإعمار”!
إن هذا التناقض لا يُقنع أحدًا، لا في الداخل، ولا بين الشركاء الدوليين.
رابعًا: من يخطط؟ ومن يُنفذ؟ ومن يراقب؟
حتى لو تم الاتفاق على وقف الحرب، فإن السؤال المركزي هو:
من يملك شرعية التخطيط والإشراف على الإعمار؟
- هل هي حكومة جاءت بتكليف عسكري؟
- أم نخب تكنوقراطية تعمل تحت جناح التحالفات المسلحة؟
- أم أن الأمر يجب أن يُدار عبر حكومة انتقالية وطنية، عابرة للمحاصصات، وذات برنامج متوافق عليه ومرتبطة بشفافية حقيقية أمام المانحين والشعب؟
أي مسار إعمار لا يطرح هذه الأسئلة، ولا يضع تصورًا حقيقيًا للمساءلة، فهو وصفة جديدة للفشل وإعادة إنتاج الفساد.
خامسًا: لا إعمار دون تغيير جذري في أولويات الدولة
لا يمكن الحديث عن إعمار الخرطوم، بينما الدولة تُنفق على الحرب أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم.
لا إعمار دون تحول جذري في فلسفة الحكم وإعادة توزيع الموارد، بحيث تُوضع أولويات المواطن قبل مصالح الشبكات العسكرية والبيروقراطية.
إن إعمار السودان لا يعني فقط تشييد ما دُمّر، بل بناء وطن من جديد، وطن قائم على العدالة، والتنمية المتوازنة، والسيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية.
خلاصة الحلقة الثانية:
الإعمار ليس شعارًا يُرفع، ولا مؤتمرًا يُعقد، ولا عقودًا تُوزع على المقربين، بل هو مسار وطني شامل، يبدأ بوقف الحرب، وتحقيق السلام، وفتح أبواب السياسة أمام الجميع، وبناء مؤسسات رشيدة قادرة على إدارة الموارد بشفافية.
أما ما يُطرح اليوم، فهو إعادة تدوير الحرب في هيئة إعمار، ونسخة مقلوبة من التنمية، تهدف لتجميل وجه السلطة، وتضليل الخارج، وتكريس معاناة الداخل.
وإذا لم تتوقف الحرب، فلن تُبنى لا الخرطوم ولا السودان، بل ستُبنى إمبراطوريات جديدة من الفساد على أنقاض وطن محترق.