رأي

كيف حول نظام الإخوان المسلمين السودان إلى دولة منبوذة دولياً) (2)

د. فاطمة الزين الغالي- كليفورنيا

تمهيد
مع مجيء انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو 1989، والذي أتى بالرئيس عمر البشير إلى السلطة بدعم من الحركة الإسلامية بقيادة حسن الترابي، بدأ السودان صفحة جديدة ومظلمة في علاقاته مع الغرب. هذه الصفحة اتسمت بالقطيعة والعداء والتوجس، ليس فقط بسبب السياسات الداخلية القمعية، بل نتيجة لمنظومة فكرية ترى في “الآخر” الغربي عدواً حضارياً ودينياً، وجعلت من السودان نقطة ارتكاز لتصدير “الثورة الإسلامية” وتفريخ الحركات الإرهابية، مما أدى إلى عزل السودان ووصمه دولياً بالإرهاب.
1. أيديولوجيا متطرفة وذهنية معادية للعالم
تأسست سياسة نظام الإخوان في السودان على مشروع شمولي يسعى لإعادة صياغة الدولة والمجتمع، عبر ما سُمّي بـ”التمكين” و”أسلمة الدولة”. لم يكن الغرب في هذا السياق شريكاً أو حليفاً، بل خصماً يجب “تأديبه” وفقًا لخطاب الجهاد الأممي. انعكس هذا الفكر العدائي في الخطاب الرسمي وفي السياسات الخارجية، حيث تحوّل السودان إلى ملاذ آمن للجماعات المتطرفة: من أسامة بن لادن والقاعدة، إلى حماس، والجماعة الإسلامية المصرية، وحتى جيش الرب الأوغندي.
هذا التوجه الأيديولوجي المعزول، جعل الغرب ينظر إلى السودان كدولة مارقة، لا تؤمن بالقانون الدولي، ولا تحترم القيم الإنسانية، بل تسعى إلى زعزعة الأمن الإقليمي والدولي.
2. العزلة الدبلوماسية والطرد من المؤسسات الدولية
في منتصف التسعينيات، بلغ العداء بين السودان والغرب ذروته. ففي عام 1993، وضعت الولايات المتحدة السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ليبدأ حصار اقتصادي وسياسي خانق استمر لأكثر من 20 عاماً.
تم تجميد عضوية السودان في بعض المنظمات الدولية، وحُرم من الوصول إلى مؤسسات التمويل العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما توقفت برامج التعاون الإنمائي، وأُلغيت اتفاقيات الشراكة، وتوقفت المنح الدراسية التي كانت تقدمها بريطانيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي للطلاب السودانيين.
وبهذا، لم يعد يُنظر إلى السودان كشريك في التنمية، بل كـ”خطر محتمل” يجب احتواؤه وعزله.
3. تشويه صورة المواطن السوداني في الخارج
لم يتوقف تأثير نظام الإخوان عند المستوى الرسمي، بل انسحب إلى حياة المواطنين العاديين. أصبح الجواز السوداني بمثابة “تهمة أمنية” في مطارات العالم. أُدرج المواطن السوداني تلقائياً ضمن قوائم التفتيش، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بسبب ارتباط الخرطوم بالإرهاب العالمي.
حتى الجواز الدبلوماسي السوداني، الذي يُفترض أن يتمتع بحصانة واحترام، صار يُفتش تفتيشاً دقيقاً ومهيناً في المطارات الغربية، في سابقة لم تحدث مع أي جنسية أخرى. كما أغلقت بعض الدول أبوابها كلياً أمام السودانيين، فيما شددت دول أخرى قيود التأشيرات إلى حد شبه الاستحالة، خاصة لأغراض السياحة أو التجارة أو حتى العلاج.
4. انقطاع التعليم والعلاج والسفر
كانت النتيجة المباشرة لذلك هي حرمان آلاف السودانيين من فرص التعليم في الغرب، بعدما كانت بريطانيا وأمريكا وألمانيا تستقبل سنوياً عشرات الطلاب السودانيين. توقفت المنح، ورفضت الجامعات استقبال طلبات من السودان، وتحولت التأشيرة من فرصة إلى جدار صد.
كما حُرم السودانيون من العلاج في الخارج، إذ لم يعد بمقدورهم السفر إلا بصعوبة بالغة، وحتى إن تمكنوا من ذلك، ظلوا عرضة للتمييز والتشكيك.
أما حركة التجارة، فقد تقلصت بصورة مهولة، إذ بات التعامل مع السودان محفوفاً بالمخاطر القانونية والمالية، نتيجة العقوبات والتصنيفات الدولية.
5. تحول السودان من دولة شريكة إلى “تهديد وجودي”
نظرة الغرب إلى السودان تغيّرت جذرياً، من دولة حليفة ذات كوادر مؤهلة وشعب مسالم، إلى دولة مصدّرة للمتطرفين ومؤهلة لتهديد الاستقرار الإقليمي والعالمي. وقد بلغ هذا التصور ذروته بعد تورط النظام في جرائم إبادة جماعية في دارفور، مما دفع المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الدولة، وهو أمر لم يحدث إلا نادراً في التاريخ المعاصر.
خاتمة
لقد دفع الشعب السوداني ثمناً باهظاً لخيارات نخبة حاكمة انعزلت عن العالم، وظنت أن بإمكانها فرض رؤيتها الشمولية على الداخل والخارج. فبدلاً من أن يكون السودان جسراً بين إفريقيا والعالم، تحوّل إلى كيان منبوذ، تُرفض طلبات أبنائه على أبواب السفارات، ويُلاحق جواز سفره بالريبة، وتُعامل نخبه بتوجس واحتقار.
اليوم، حتى حال في اسقاط نظام الإخوان الذي يقود هذه الحرب اللعينة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن استعادة تلك الصورة النبيلة التي كانت للسودان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي؟ الإجابة تعتمد على قدرة السودانيين أنفسهم على بناء نظام سياسي جديد، يؤمن بالانفتاح، والتعدد، والشراكة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!