رأي

الإخوان في السودان: فن التربح من العزلة الدولية

عباس احمد السخي

الحلقة الثانية: تجربة السودان… منبوذية مدفوعة الثمن
عندما وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في السودان عبر انقلاب 30 يونيو 1989، لم يكن ذلك تتويجاً لتيار شعبي جارف، بل نتيجة تخطيط تنظيمي محكم استغل انقسامات القوى السياسية، وضعف النظام الديمقراطي، وتواطؤ بعض عناصر الجيش مع “الجبهة الإسلامية القومية”. بهذا الانقلاب بدأ فصل طويل من العزلة الدولية، والفساد المؤسسي، والمواجهة العبثية مع المجتمع الدولي.
خلال ثلاثين عاماً من حكم “الإنقاذ”، عمّق الإخوان في السودان من عزلة البلاد، لا بسبب مواقف مبدئية كما يزعمون، بل نتيجة خيارات استراتيجية انتحارية. تحوّل السودان إلى حاضنة لتنظيمات الإرهاب العالمي، من أسامة بن لادن إلى كارلوس، وصار اسمه متداولاً في ملفات تمويل الإرهاب وغسيل الأموال وتهريب السلاح. ولم يكن هذا انحرافاً مؤقتاً بل امتداداً لعقيدة إخوانية ترى في المواجهة مع الغرب “شرفاً”، وتعتبر العزلة “ثباتاً على المبدأ”، بينما هي في الحقيقة وسيلة للبقاء في السلطة عبر خلق عدو خارجي دائم.
فرضت الولايات المتحدة عقوبات على السودان، وصنفته ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقطعت عنه المساعدات، وتقلّصت علاقاته الخارجية، بينما تدهورت الخدمات العامة، وتضاعفت معدلات الفقر، وهاجر الآلاف من الكفاءات. ومع ذلك، ظل الإخوان يوظفون هذه العزلة لكسب الولاء الداخلي عبر الاقتصاد الريعي القائم على التمكين، وابتزاز الخارج بلعب أدوار أمنية في ملفات مثل الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب.
حين اندلعت ثورة ديسمبر 2018، لم تكن مجرد هبة شبابية ضد الغلاء والفساد، بل كانت انتفاضة ضد عقيدة سياسية كاملة حكمت السودان بالعزلة والإقصاء وتزييف الوعي. سقط البشير، لكن منظومة الإخوان لم تسقط. فقد توزعت مراكزها في أجهزة الدولة العميقة، وراحت تعمل على إفساد المرحلة الانتقالية بكل الطرق، من تأجيج الفتن القبلية، إلى خلق الانقسامات وسط القوى المدنية، وتمويل الحملات الإعلامية ضد الحكومة الانتقالية، وصولاً إلى اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية.
نجحوا في النهاية، بتحالف غير مقدّس مع بقايا النظام القديم، في تقويض الوثيقة الدستورية، وإعادة إنتاج تحالف العسكر والإخوان في صيغة هجينة، قادت البلاد إلى الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021، ثم إلى الفوضى، وأخيراً إلى الحرب المفتوحة في أبريل 2023.
لم تكن الحرب الحالية في السودان نتيجة صراع طبيعي على السلطة، بل نتيجة حتمية لعقود من التمكين الأيديولوجي الذي مارسه الإخوان داخل المؤسسة العسكرية، والفساد البنيوي الذي نخر الدولة. لا يقاتل الناس اليوم من أجل الوطن، بل من أجل مواقع امتياز صنعها الإخوان وسلّحوها، ثم تركوها تنفجر.
البلاد اليوم ممزقة، وشعبها مطارد في المنافي، وملايينه يعيشون في معسكرات اللجوء أو الموت. ومع ذلك، لا يزال الإخوان يراهنون على هذه الكارثة بوصفها فرصة جديدة للعودة من خلال تحالفات دولية مشبوهة، وصفقات مع قوى إقليمية ترى في الفوضى السودانية ورقة ضغط ومجال نفوذ.
الخاتمة
لقد نجح الإخوان في تحويل العزلة إلى مورد سياسي، وفي جعل السودان مختبراً لتجاربهم الكارثية. لكنهم فشلوا في بناء دولة، أو تقديم نموذج صالح للحكم، أو حتى في الحفاظ على وحدة البلاد. كانت العزلة الدولية عندهم عقيدة وليست ظرفاً، وتم تسويقها كـ”محنة” وهم من صنعها، والتربح منها تم على حساب شعب مسحوق، دفع ثمن تآمر تنظيم لا يعترف بالأوطان، ولا يعرف معنى للوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!