
بينما يعيد العالم كتابة قوانين الاقتصاد والمال بأدوات رقمية سيادية، يظل السودان رهين أنظمة قديمة، يصدّر ذهباً بلا سيطرة، ويستورد أزمات بلا حلول. في لحظة يعيد فيها اليوان الرقمي تشكيل خريطة التجارة العالمية، تتسابق القوى الصاعدة لبناء عملات وطنية ذكية، تُدار على سلاسل الكتل، وتتحرر من منظومة (سويفت) البطيئة والمهيمن عليها.
تجربة الصين ليست مجرد حيلة تقنية، بل مشروع سيادة مكتمل الأركان. دولة ربطت مدفوعاتها بنظام رقمي قادر على تجاوز العقوبات والتحكم الخارجي، فقلصت زمن التسوية المالية من أيام إلى ثوانٍ، وخفضت كلفة المعاملات بنسبة غير مسبوقة. أكثر من 87 في المئة من دول العالم تتكيف مع أنظمة مماثلة. أما نحن، أهل السودان، فنرى الذهب يخرج ولا يعود، ونظل بلا عملة وطنية صلبة ولا منظومة دفع مستقلة.
ليس هناك مبرر لهذا القصور. السودان يمتلك من الذهب ما يؤهله لتأسيس قاعدة سيادية قوية. أكثر من تسعين طناً سنوياً، بحسب تقديرات البنك المركزي والتقارير الدولية، تضعنا ضمن أكبر خمسة منتجين في إفريقيا. لكن ما الفائدة إذا ظل الذهب يُهرّب وتُهدَر عائداته في فراغ بنكي هش وتحويلات مشبوهة؟
الحل يكمن في بناء عملة رقمية سيادية مربوطة بالذهب. عملة تُدار محلياً بشفافية، تمنح السودان القدرة على تسوية معاملاته الداخلية والإقليمية خارج قبضة الدولار. عملة تبني الثقة، تعيد للدولة قدرتها على حماية مواردها، وتفتح أمام الاقتصاد أبواباً جديدة. هذا ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية في عالم تتغير قواعده.
مشروع كهذا يبدأ بقرار سياسي شجاع:
صندوق سيادي ذهبي يُحوّل إليه جزء من الإنتاج الرسمي؛
منصة دفع وطنية تُبنى بشراكة مع دول تملك الخبرة — على رأسها الصين، دول (بريكس) ، الإمارات، وبعض الدول الإفريقية الرائدة مثل نيجيريا التي أطلقت eNaira؛
تشريع واضح يضمن النزاهة؛
أمن سيبراني صارم يحمي المنظومة من الاختراق والتلاعب.
ولا شيء يمنع التجريب المبكر في قطاعات حيوية كالتجارة البينية أو مدفوعات الطاقة.
بطبيعة الحال، ستقاوم بعض القوى هذا التغيير. المنتفعون من النظام القائم لن يسلّموا بسهولة. لكن الرهان الأكبر على قوى المجتمع المدني، والنقابات، والاقتصاديين الوطنيين، الذين يتطلعون إلى سيادة اقتصادية حقيقية. بناء عملة رقمية مربوطة بالذهب ليس مجرد إصلاح مالي، بل معركة استعادة وطن. معركة لاستعادة القرار السوداني في اقتصاد عالمي لا يرحم الضعفاء.
اليوم، نحتاج إلى شجاعة في الرؤية وجرأة في التنفيذ. لا نملك ترف الانتظار. مواردنا تُنهب أمام أعيننا، واقتصادنا يتداعى. خيار السيادة الرقمية ليس خياراً إضافياً، بل هو الخط الفاصل بين البقاء في دائرة التبعية، أو ولوج عالم جديد بقواعد أكثر عدلاً.
من ذهبنا… إلى سيادتنا.
هكذا تُكتب فصول الاستقلال الحقيقي.
manal002002@gmail.com