رأي

قدسية تنهب: بعثة الحج السودانية بين الفريضة و الفساد

عادل تاج الدين جار النبي

الفضائح التي كشفت عنها الوثائق والتقارير حول بعثة الحج السودانية للعام 2025 لا تمثل مجرد تجاوزات إدارية، بل تُعدّ مؤشراً خطيراً على انهيار المنظومة الأخلاقية والإدارية للدولة في واحدة من أقدس وأهم المهام الرسمية. هذا الانهيار لم يحدث فجأة، بل هو نتاج تراكم طويل من المحاصصات السياسية، وغياب المحاسبة، واستغلال الدين كواجهة لمصالح خاصة.

تحليل المشهد يُظهر أن البعثة تحولت من مهمة خدمية تُعنى براحة الحاج وأمنه وسلامته، إلى مؤسسة تجارية فاسدة يُعاد فيها توزيع النفوذ داخل الدولة عبر بوابة “الحج”. تم اختطاف هذا الموسم الروحي من قبل شبكة محددة تمتلك امتداداتها في المؤسسات الحكومية، والسفارات، بل وحتى في الأسواق السعودية، الأمر الذي جعل من محاربة هذا الفساد معركة تتجاوز مجرد إقالة مسؤولين أو التحقيق في عقد بعينه.

أخطر ما في الأمر أن هذا الفساد يرتكب في موسم ديني، وفي بلد أجنبي، مما لا يسيء فقط إلى صورة الدولة السودانية، بل يهدد بعلاقاتها الدبلوماسية، ويضعها تحت المجهر أمام السلطات السعودية التي تفرض قوانين صارمة على تنظيم شؤون الحجاج.

الحلول تبدأ من الاعتراف بأن بعثة الحج لا يمكن أن تدار بعقلية الغنائم السياسية أو بمنطق المحاصصات. لا بد من تفكيك هذه “المافيا” التي سيطرت على الملف، بدءًا من المنسق العام وحتى أصغر سمسار وساطة، عبر لجنة تحقيق مستقلة ومحايدة، بمشاركة الجهات العدلية، وديوان المراجعة القومي، وهيئة مكافحة الفساد.

ينبغي أن يُعاد تشكيل بعثة الحج وفق معايير مهنية بحتة، قائمة على الكفاءة والشفافية. يجب إخضاع كل العقود المتعلقة بالإيواء والنقل والتغذية والإعلام للمناقصات المفتوحة تحت إشراف هيئة مستقلة، مع نشر تفاصيلها للرأي العام. كما يُفترض إنشاء منصة إلكترونية تُوثّق خطوات الحاج من لحظة التسجيل وحتى عودته، تتيح له تقديم الشكاوى وتقييم الخدمات بشكل مباشر.

ومن الضروري مراجعة التشريعات المنظمة لعمل بعثة الحج، بما في ذلك صلاحيات المنسق العام، وآلية اختيار أعضاء البعثة، وربط ذلك بتقارير أداء معلنة. كذلك يجب إشراك المجتمع المدني، ونقابات الحجيج، والخبراء المتقاعدين، في تقييم وتطوير التجربة كل عام، بعيداً عن الهيمنة السياسية.

السودان لا يحتاج فقط إلى تطهير هذا الملف، بل إلى استعادته كواجب ديني وخدمة وطنية، لا كوسيلة لجني الأرباح. وما لم تبدأ المحاسبة من أعلى الهرم إلى أصغر موظف، فإن مواسم الحج القادمة ستشهد مزيداً من الانتهاكات، وسيفقد الحجيج ثقتهم في الدولة، بل وقد تتعرض البلاد لإجراءات تقييدية من الجانب السعودي.

إن ما حدث في حج 2025 ليس خطأً إدارياً عابراً، بل جريمة أخلاقية وسياسية كاملة الأركان، لا تحتمل التسويف ولا لجان التحقيق الشكلية. المطلوب هو العدالة، والعدالة تبدأ حين يُعاد الحج إلى روحه: عبادة خالصة، لا صفقة خاسرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!