
التنوير: حسن عبد الرضي الشيخ
شاقني نص جميل عن فنان أجمل، في أمسية عذبة، رأيت أن أحرر ذلك النص البديع الذي أبدعت في سرده الأستاذة إيمان حسين إدريس ناقلة بعضه عن الباحث الفنان، الخضر أحمد الخضر الفادني.
في مساء ساحر، عبر مجموعة “ربوع السودان” على تطبيق واتساب، استمتعنا بأمسية غنائية فنية عذبة، جابت بنا الأستاذة إيمان أرجاء الإبداع السوداني الأصيل، واحتفت بقامة فنية شامخة لطالما أطربت الوجدان وأشعلت القلوب نغماً وتطريباً. ضيفنا في هذه الليلة كان الفنان المبدع، صاحب الصوت الدافئ والأداء المتفرد: خليل إسماعيل، فنان الفنانين، وواحد من أنبل الرموز الغنائية التي أنجبتها بلادنا.
نشأته وبداياته
وُلد خليل إسماعيل موسى في حي القبة بمدينة الأبيض، في الخامس من فبراير عام ١٩٣١م. بدأ تعليمه في خلوة الشيخ شنتوت، ثم التحق بمدرسة القبة الأولية، قبل أن ينتقل إلى قسم الدراسات المسائية في مدرسة الأبيض الصناعية. احترف في بداية حياته صناعة زخارف المباني، وعمل بعد انتقاله إلى الخرطوم عام ١٩٥٨م مع المهندس المعماري كامل جمال يوسف.
ينحدر خليل من أسرة عُرفت بالطيبة والمرح وحب الفن، وكان الحي الذي نشأ فيه عامراً بالمبدعين ورجال المجتمع والدين والسياسة. منذ صغره، أظهر ميولاً فنية واضحة، وكان يُحيي مناسبات أسرته، خاصة حفلات ختان إخوته، ويغني من كلماته وألحانه. أول أغنية قدمها كانت بعنوان “أوعى تحب”، وظل يمارس الغناء كهواية وسط الأسرة والجيران.
محطته الأولى في الإذاعة
لم يكن خليل يخطط لدخول الإذاعة، لكن الأقدار ساقته ذات يوم برفقة صديق إلى مقرها، حيث التقيا بمهندس تربطه علاقة صداقة بمرافقه. وبعد إصرار من صديقه، طلب المهندس منه أن يغني، فقدم خليل أغنيتين من أعماله الخاصة. وما إن انتهى حتى تفاجأ بأن المهندس قد سجلهما بجهاز “القروندي” دون علمه.
أُعجب المهندس بالتسجيل وأطلع عليه الماحي إسماعيل، المسؤول عن الفرقة الموسيقية، الذي طلب من خليل الحضور لتسجيل الأغنيتين رسمياً. وبعد ثلاثة أيام، استلم خليل إسماعيل ثمانية كوبونات، قيمة حافز التسجيل (وكان الكوبون يعادل جنيهاً كاملاً آنذاك). وهكذا كانت بدايته الحقيقية في عام ١٩٥٨م.
مسيرته الفنية
في العام نفسه، أجاز صوته بأغنية “يوم التهاني” من كلمات عبد الرحمن الريح وألحان خليل أحمد. ومنذ ذلك الحين، بدأ يشق طريقه بين عمالقة الفن السوداني، متسلحاً بموهبة نادرة، وصوت مميز، وشخصية فنية مستقلة.
تميز خليل بأسلوب خاص، غني بالإحساس والمضامين الشعرية العميقة، وصور لحنية راقية، ما جعله يرسخ في ذاكرة المتلقي السوداني، ويُصبح أحد أعمدة الأغنية السودانية الأصيلة.
الدراسة الأكاديمية والتطوير الفني
رغم أنه لم يكن يخطط للدراسة، التحق خليل إسماعيل بمعهد الموسيقى والمسرح عام ١٩٧٣م، تشجيعاً لصديقيه الفنانين زيدان إبراهيم وأبو عركي البخيت، الذين أطلق عليهم الإعلامي الراحل محمد خوجلي صالحين لقب “الفرسان الثلاثة”.
زيدان ترك المعهد لاحقاً بسبب انشغاله بجماهيريته الطاغية، بينما أكمل خليل وأبو عركي الدراسة في العام ١٩٧٧م. تخصص خليل في الصوت والبيانو، وتعلم على يد أساتذة كبار مثل الموسيقار الإيطالي إيزو مايسترللي والكوري أوشان، ما ساهم في صقل موهبته وتوسيع مداركه الفنية.
المشاركة في “الملحمة“
في عام ١٩٦٨م، شارك في أداء نشيد “قصة ثورة” الشهير بــــ “الملحمة”، إلى جانب كبار الفنانين مثل محمد الأمين، عثمان مصطفى، وبهاء الدين أبو شلة. الأغنية من كلمات هاشم صديق وألحان محمد الأمين، تمجيداً لثورة ٢١ أكتوبر ١٩٦٤م.
أبدع خليل إسماعيل في مقاطع ذات متطلبات أدائية عالية، من أبرزها:
“كان في الجامعة موكب هادر صمم يجلّي الليل السادر
وكان الليل السادر غادر”
“وكان في الخطوة بنلقى شهيد
بدمو يرسم فجر الوعي”
سفير للأغنية السودانية
لم يكن خليل إسماعيل مجرد فنان محلي، بل مثّل السودان في محافل دولية، أبرزها زيارته إلى كوريا الجنوبية وعدد من الدول الأفريقية، ناشراً للأغنية السودانية وممثلاً حقيقياً لقيم الفن الراقي، حتى لُقّب عن جدارة بــــ “فنان الفنانين”.
أعماله وأثره
من أبرز أغنياته “الأماني العذبة”، التي أحبها الجمهور السوداني، ورددها الفنانون الشباب بعده. وقد استطاع خليل أن يوظف الجمال اللحني بطريقة متناغمة مع النص الشعري، ما منح أعماله بعداً جمالياً خاصاً.
ولعل المفارقة أن بعض الأغنيات، مثل إحدى قصائد الشاعر الكبير محمد الأمين، كانت قد رُفضت من لجنة الألحان رغم تقديمها بعدة ألحان، لكن محمد الأمين نفسه صرّح بأنه كان يتمنى لو غناها خليل إسماعيل، لما عُرف عنه من إحساس رفيع وتطريب ساحر.
التجاهل والتقدير الغائب
رغم كل هذا العطاء، عاش خليل إسماعيل مظلوماً من حيث التقدير الرسمي. لم يُمنح ما يستحقه من التكريم في حياته، وهو الذي شهد له رفاق دربه مثل محمد الأمين وأبو عركي البخيت برقة طبعه، ونبل أخلاقه، وصدق فنه.
رحيله المفجع
في يوم الجمعة، الموافق ٢١ نوفمبر ٢٠٠٨، أسدل الستار على حياة فنان استثنائي، رحل في هدوء يشبه صوته، وترك في القلوب حزناً عميقاً لا يُمحى. فقد كان خليل إسماعيل من أولئك الذين لا يرحلون تماماً، لأن أصواتهم تبقى تهمس في وجداننا، وألحانهم تظل تسكن الذاكرة الجمعية لشعبٍ عرف معنى الجمال من خلالهم.
وقد عبّر زميله الفنان أبو عركي البخيت عن حزنه بقوله:
“كان خليل صديقاً وأخاً وأستاذاً… حين يغني، تشعر أنه يترجم وجدان الشعب السوداني. فقدانه ليس فقد فرد، بل غياب طيف من النقاء والصدق، افتقدناه في حياتنا العامة والفنية.”
بوفاته، طُويت صفحة ناصعة من كتاب الأغنية السودانية، لكنها ستظل تُتلى كلما اشتقنا إلى الصدق، وكلما أردنا أن نستمع لفنان، يغني كما يُصلي.
كلمة أخيرة
خليل إسماعيل ليس مجرد اسم في قائمة الفنانين، بل هو مدرسة قائمة بذاتها. فنه وموهبته وإسهاماته جعلت منه رمزاً يجب أن يُحتفى به، وتاريخه يستحق أن يُوثق في مناهجنا وسيرتنا الثقافية. هو خلاصة وجدان، وصوت وطن، وفنانٌ لفنانين.