رأي

تحالف تأسيس والتاريخ القادم: بغاث الطير، الطفولة السياسية في مواجهة المستقبل

 خالد كودي، بوسطن

ما إن تُذكر الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، أو يُلمّح إلى مشروع السودان الجديد، حتى يعلو نقيق مستمر من جوقة يعرفها الفاشلين: سذج تحولوا إلى خبراء في “التحليل”، نشطاء بلا ذاكرة نضالية يتنقلون من منصة إلى أخرى، وباحثون في أرشيف الأمن أكثر مما هم في الفكر السياسي. هؤلاء لا يكتبون تحليلاً بقدر ما يصدرون فتاوى خوف، صراخًا جماعيًا أشبه بإنذار كاذب في حقل ألغام، يبدأ بعبارات من قبيل: “الحركة الشعبية تهدد وحدة السودان!”، “تحالف تأسيس يتشظى!”، “الحركة الشعبية سلمت للدعم السريع”…. “أصوات تنشق!”… وكأنهم يتمنون انهيار مشروع لا يملكون له بديلاً، ولا يعرفون من أين يبدأ، وياللبؤس!

لكن فلنُسقط القناع: هؤلاء لا يخافون من الانشقاقات، ولا يقلقهم التباين في الرؤى، بل يخافون من شيء واحد فقط: أن يتم تقويض بنيانهم القديم، أن يُسحب البساط من تحت “وحدويتهم” الزائفة، وأن تنهار الامتيازات التي راكموها باسم الوطن والدين والهوية المفروضة. يخافون من مشروع السودان الجديد، لأنه ببساطة يهدد امتيازاتهم.

 

تحالفات لا عزاءات: لمن لا يفهم الفرق بين السياسة والمواساة:

في كل تجارب التاريخ السياسي الكبرى، كانت التحالفات الواسعة قائمة على تفاوض وتباين واختلافات، لا على صمت المقابر. تحالف “تأسيس” لا يخرج عن هذا القانون؛ هو تحالف بين قوى لها رؤى مختلفة لكنها تتقاطع على أرضية واضحة: إعادة تأسيس الدولة السودانية على أسس جديدة، قائمة على العدل، والعلمانية، وتقرير المصير، واللامركزية والعدالة التاريخية، وحقوق الجماعات لا احتكار النخب.

لكن هذا المشهد الطبيعي في السياسة، يبدو في عيون خصوم المشروع كأنه خلل. فهم يطالبون تحالفاً أشبه بسرادق عزاء: حضور هادئ، مواساة بلا نقاش، ووحدة مفروضة. أي تباين في وجهات النظر يُستغل فوراً كبطاقة دخول إلى سوق الإشاعة والتهويل والتلفيق. وهكذا تنشط “الورشة التحليلية” التي لا تنتج شيئاً سوى الصراخ: “تأسيس يتشظى!”، “انقسامات قادمة!”، و”الحركة الشعبية وراء كل شيء.”

 

الحركة الشعبية: فزّاعة الفاشلين، من لا مشروع لهم:

ليست المشكلة أن الحركة الشعبية موجودة، بل أن مشروعها قائم. فبينما تبيع النخب الفاشلة و القوى التقليدية الوهم وتعيد تدوير اللغة المهترئة للدولة القديمة، وبالأفكار القديمة تأتي الحركة بوثائقها، بدستورها، برؤيتها الثابتة، لتعلن: لا مركز بلا هامش، لا وحدة بلا عدالة تاريخية، لا وطن بلا مساواة، لا مستقبل بلا مساءلة. وهذا بالضبط ما يجعلها الفزّاعة الأولى في حقل النخب الكسولة.

فهم لا يخافون من الحركة بوصفها تنظيمًا، بل كفكرة تهدد بنيتهم القديمة من الجذور:

كل بند في وثائق السودان الجديد المعبر عنها في ميثاق تأسيس والدستور الانتقالي يُقرأ في عيونهم كاتهام.

كل حديث عن العلمانية يعتبرونه كفرًا سياسيًا.

كل إشارة إلى تقرير المصير يرونه تمزيقًا.

أما الجيش، فهم لا يرون فيه مؤسسة وطنية بل إلهًا مقدسًا لا يُمَس، مهما فعل، ان فطسهم، ذبهم او خنقهم بالأسلحة الكيمياوية يظل جيشهم… جيش الهنا!

 

تلفيقهم عملة رائجة… في سوق بائر:

ولأنهم لا يستطيعون تقديم مشروع مقابل، فقد تخصصوا في تزييف المشهد. “فلان انسحب!”، “بيان غامض يدل على خلافات!”، “تصريحات تنذر بانشقاقات!”، إلى آخر هذه الأخبار المصنوعة بعناية في غرف مظلمة لا يدخلها سوى ظل النخب، ومصادرهم المفضلة: “قال مصدر مطّلع”، “همس في زقاق”، و”رأينا منشوراً محذوفاً”. كل ما تحتاجه لبناء نظرية مؤامرة جديدة، هو قليل من الخيال، وقناة تيليغرام.

أما مشروع السودان الجديد نفسه، فلا أحد منهم يناقشه. لا أحد يقرأ “ميثاق تأسيس”، أو الدستور الانتقالي، أو حتى يفهم معنى “العدالة التاريخية”. كل ما يفعلونه هو الدوران في حلقة مفرغة من التهويل والهلع، كضفادع في مستنقع يرددون الصدى ذاته دون أي أثر للحركة!

 

الكتلة التاريخية: الهدم البناء لا إعادة التدوير

في فكر غرامشي، الكتلة التاريخية ليست مجرد تحالف ظرفي، بل ائتلاف ثقافي- اجتماعي يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع.

في السودان، فإن هذا يعني:

إعادة بناء العقد الاجتماعي من الصفر،

الاعتراف بتعدد القوميات والهويات،

فصل الدين عن الدولة،

تصحيح الظلم التاريخي عبر أدوات سياسية لا رمزية،

تمكين الهامش لا جعله تابعًا.

أما الذين يُدينون هذه الرؤية، فهم إما متورطون في الدولة القديمة، أو عالقون في نزعة أخلاقية طفولية، تعتبر أي تفاهم سياسي غير أخلاقي، وأي اختلاف جريمة، وأي مشروع خارج مركزهم تهديدًا وجوديًا.

 

حين يتحول الفشل إلى وظيفة:

هؤلاء أنفسهم – المتوجسون من كل نقاش، والمترصدون لكل بيان، والعائشون على تأويل كل تباين- هم من قادونا إلى حيث نحن الآن:

حين أجهضوا ثورات باسم وحدة الصف،

وشيطنوا القوى الثورية الحقيقية باسم الوطنية،

وتحالفوا مع العسكر ولايزالوا كلما اشتد الزخم الثوري

هم الآن يعيدون اللعبة نفسها: يريدون شيطنة تحالف تأسيس لأنه لا يخضع لسلطة الخرطوم السياسية أو قوالبها الذهنية. ويريدون تشويه الحركة الشعبية لأنها لا تعترف بقدسية الجيش، ولا بشرعية دولة صُنعت على أنقاض الآخرين.

 

السودان الجديد: الكابوس المقدّس:

الحقيقة التي تزعجهم، ولا يملكون الجرأة لمواجهتها، أن مشروع السودان الجديد هو كابوسهم الوجودي.

لأنه لا يسعى لتعديل شكل النظام، بل لهدمه بالكامل وبناء دولة مدنية، علمانية، عادلة، تساوي بين الناس لا تساويهم بالأرض. دولة لا تحمي النخب، بل تُعيد توزيع القوة والثروة والمعنى.

في هذا السياق، ليست الحركة الشعبية فصيلاً مسلحاً فقط، بل أداة تفكيك معرفي وثقافي لنظام امتيازات طويل الأمد. ولذلك تُشيطن، وتُلفّق ضدها الأكاذيب، وتُربط بأي مؤامرة. ذلك أن الحقيقة التي لا يريد أحد منهم أن يقولها بصوت عالٍ هي:

من يخاف من الحركة الشعبية، لا يخاف منها، بل من السودان الذي تقترحه.

 

اخيرا: النهر لا ينتظر الضفادع

بغاث الطير يطير حول الجيف، لا حول المشاريع الحية، وما نشهده اليوم من نقيق متصاعد ليس إلا محاولة فاشلة للنيل من مشروع يولد بثقة وثبات، مشروع يهدد بإعادة تعريف “سودانيتهم” التي بنوها على التمييز والاحتكار.

هؤلاء ليسوا ناقدين، بل خائفين.

ليسوا حريصين على الوطن، بل مرعوبين من ضياع امتيازاتهم.

ولن يصنعوا بديلًا، لأنهم ببساطة لم يُخلَقوا لذلك.

مشروع السودان الجديد لا يحتاج إلى موافقتهم، ولا يخشاهم.

هو مشروع طويل النفس، يتسلّح بالفكرة، لا بالسلاح فقط، ويعرف أن التاريخ لا يُكتَب على جدران تويتر، بل على أكتاف من قرروا أن لا يعودوا إلى بيت الطاعة القديم.

ابقوا على نقيقكم إذًا… فالنهر لا ينتظر الضفادع.

 

النضال مستمر والنصر اكيد.

 

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!