
في تلك المدينة المنهكة بالحرب، حيث لا فرق بين الليل والنهار، كان هارون أحمد يكافح بطريقته الخاصة. لم تكن إعاقته سوى تحدٍّ آخر اعتاد قهره، فقد حمل في صدره قلبًا لا يعرف الهزيمة. درس القانون في جامعة النيلين، تفوّق، تألق، وصار محاضرًا يزرع في طلابه شغف العدالة. كان يؤمن أن الظلم عابر، وأن صوت الحق باقٍ، لكنه لم يكن يعلم أن صوته سيصبح شاهدًا على مصيره.
حين غرق السودان في نيران الحرب، لم يهرب كما فعل كثيرون. كان بإمكانه أن ينجو بأطفاله وزوجته ليلى حسن، لكنه آثر البقاء. كيف يرحل وهو الذي عاش يحلم بوطنٍ عادل؟ كيف يبتعد وهو الذي قرر أن يوثق الجراح، أن يكون عينًا ترى، وقلمًا يفضح؟ لم يدرك أنه كان يكتب بمداد دمه، وأن الحقيقة التي سعى وراءها ستلتهمه يومًا.
في تلك الليلة المشؤومة، انكسرت سكينة منزله بصوت الأقدام الثقيلة. اقتحموا المكان كالعاصفة، وجوههم متجهمة، عيونهم موحشة، هتافاتهم تصدح كأنها ناقوس موت. وقف أطفاله مذعورين، تشبث أحمد الصغير بعباءة أمه، اختبأت رحمة خلف سريرها، بينما عبير كانت تبكي دون أن تفهم لماذا يُنتزع والدها من بينهم كأنما كان جريمة يجب محوها.
صرخت ليلى، توسلت، سقطت عند أقدامهم ترجوهم أن يبقى، لكنهم لم يسمعوا سوى أوامر القتل. نظر إليها هارون نظرة أخيرة، عينيه كانتا تودعانها، تودعان كل شيء، لكنها لم تستطع أن تحفظ تفاصيل تلك النظرة، كانت الدموع تحجب عنها رؤية آخر ما تبقى لها منه.
رحل هارون ولم يعد. انتظرته ليلى طويلًا، انتظرت أن يطرق الباب كما كان يفعل دومًا، أن تعود إليه ابتسامته المتعبة، أن يجمع أطفاله حوله ويروي لهم الحكايات. لكنها لم تسمع سوى الصمت، ولم تجد سوى الفراغ.
تحول المنزل إلى مقبرة للحزن، لم تعد عبير تضحك، لم يعد لأحمد رغبة في اللعب، وباتت رحمة تسأل كل ليلة:
“أين أبي يا أمي؟ لماذا تأخر؟”
لكن ليلى لم تجد إجابة، كانت تحدق في الباب المغلق، وكأنها تنتظر معجزة، ثم تهمس بصوت مرتجف:
“كان يحلم بالعدالة… لكن العدل لم يُنصفه.”