رأي

كيف افسد اخوان السودان الوجدان الوطني المشترك ومزقوا الوحدة الوطنية؟

عباس احمد السخي

الحلقة الأولى: الوجدان السوداني بعد الاستقلال… حين غنت الشعوب لوطنها الواحد؛

عند النظر في تجربة السودان الوطنية بعد الاستقلال، فإن من أوضح الشواهد على محاولات بناء وجدان قومي جامع، هو ما قدّمته الأغنية السودانية من رسائل محمّلة بالفخر والانتماء والاحتفاء بالتعدد. في الوقت الذي كانت فيه الدول الحديثة في إفريقيا وآسيا تتلمس طريقها إلى الاستقرار بعد زوال الاستعمار، اختار السودانيون أن يعبروا عن سودانيتهم من خلال صوت الفنان، وحس الشاعر، ودفء المشاعر.

منذ اللحظات الأولى للاستقلال، بدأت الأغنية الوطنية تؤسس لوجدان سوداني لا يقوم على أساس القبيلة أو الجهة أو الدين، بل على أساس الانتماء للأرض والإنسان والتاريخ. كانت اغنية أنا سوداني واحدة من أوائل هذه التعبيرات وأكثرها خلوداً وهي من كلمات الشاعر عمر الحاج موسى وأداء الفنان خليل إسماعيل. هذه الأغنية لم تكن مجرد إنشاد للفخر الوطني، بل كانت بيانًا شعبيًا تأسيسيًا لهوية سودانية تتجاوز الشروخ العرقية والطائفية لصالح هوية مواطنة.حيث رد شعبنا كبارا وصغار “أنا سوداني أنا، أنا أُجسِّد صرخةً عبرت، مدًى كانت له الأزمان ميدانًا، وكنتُ أنا الزمانْ…”

مما جعلها تتحول إلى نشيد غير رسمي للوطن، تُردد في المدارس، وتُعزف في الإذاعة، وتُرفع في المناسبات، لترسّخ معنى أن تكون سودانيًا قبل أن تكون شيئًا آخر.

وفي ذات السياق العاطفي، جاءت أغنية “أحب مكان وطني السودان” من أداء الكابلي، لتمد الجسر بين الحب العاطفي والحب الوطني. وقد جعلت من الوطن “أحب مكان”، في تشخيص شعبي صادق يربط الانتماء بالألفة لا بالإكراه، وبالوجدان لا بالسياسة. وفي هذه الأغنية تظهر عناصر الوجدان الجمعي السوداني كصورة بيتٍ كبيرٍ يحتضن جميع بنيه دون تمييز.

أما أغنية “أنا إفريقي أنا سوداني”، فقد كانت قفزة نوعية في التعبير عن التعددية داخل الهوية السودانية، وهي من كلمات الشاعر محمد يوسف موسى، غناها الكابلي، جاءت الاغنية لتعبر عن وعي متقدم بهوية مزدوجة ترى في التباين الثقافي والعرقي مصدر قوة لا ضعف. لقد كانت هذه الأغنية بمثابة رد على النزعات العروبية المغلقة، أو الأفروعروبية النافية لأحد المكونين.

وهنا لا بد من ذكر أغنية “سوداني الجوه وجداني بريدو”، التي اكتسبت شعبية عابرة للأجيال والجهات. لقد عبرت هذه الأغنية عن رابط داخلي بين الإنسان ووطنه لا يقوم على المنطق أو السياسة، بل على “الوجد”. وهو المفهوم الذي استُخدم مرارًا في الأغنية السودانية كترجمة صوفية لعلاقة المواطن بوطنه.

وفي سياق متصل، تتألق أنشودة “إنت سوداني وسوداني أنا” كوثيقة وجدانية كاملة، تؤكد أن “سودانيتنا” هي مصدر وحدتنا، مهما اختلفت ملامحنا ولهجاتنا ومناطقنا، فهي تنبذ بشكل مباشر مظاهر التفرقة وتدين القبلية والجهوية، وهي أغنية كانت تُبث في المدارس وفي المناسبات الوطنية لعقود طويلة.

هذا الموروث الثقافي والغنائي المجيد لم يكن مجرد مصادفات فنية، بل كان تعبيرًا عن روح عامة سادت البلاد في تلك الفترة. فالفنانون كانوا أبناء بيئاتهم ومثقفي عصرهم، يعبرون عن آمال شعب خرج من استعمار طويل إلى حلم ببناء وطن يسع الجميع.

كذلك كان هناك أساس قيمي مشترك في الأغنية الوطنية يقوم على تقديس الوطن كوحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، يرفض الانقسامات الاجتماعية والتأكيد على وحدة المصير، يحتفي بالتنوع والاعتراف بالهوية الجامعة، ويستدعي الوجدان كآلية للانتماء، لا العنف أو الإكراه، ويربط السودان بالحب والكرامة والفخر لا بالخوف أو السلطة

جميع هذه الرسائل والقيم تشكلت تدريجيًا في وعي الشعب السوداني، وأسهمت في بناء وجدان سوداني مشترك، وهوية وجدانية خففت من حدة الصراعات الأهلية، وأوجدت لغة وسطى للانتماء، حتى في الفترات التي عجزت فيها الدولة عن تحقيق العدالة.

في السياق نفسه، عمل الموروث الغنائي على استدعاء الوطن ككائن حي، ولذلك تأتي أغنية “بلدي يا حبوب” للفنان محمد وردي في مقدمة هذه الجهود كتجسيد حي لقيمة الوطن كأنسان، التي تخاطب الوطن، كأنه محبوب، وبهذه اللغة العاطفية، تحوّل الوطن من مفهوم سياسي إلى علاقة حية تنبض في القلب والذاكرة واللسان.

ولكن، في لحظة فارقة ما من مسار السودان الحديث، بدأت ماكينة أخرى تعمل في الاتجاه المعاكس، وهي جماعة الإخوان المسلمين وهي تنظيم أممي إجرامي لا يعترف بالحدود الوطنية، جاءت هذه الجماعة لتنقض على هذا البناء الوجداني وتعتبره انحرافاً عن “الطريق” الذي رسمته الجماعة. ففي أدبياتهم، الوطن الحقيقي هو “دار الإسلام”، والانتماء الأسمى هو للجماعة، لا للوطن، ولا للمجتمع، ولا للثقافة المحلية الموروث القيمي والثقافي.

ولم يكن غريبًا أن تصف قيادات من الإخوان الأغاني الوطنية بأنها “بدعة”، أو “ضلال”، بل كان ذلك مدخلاً لفصل الشعب عن ذاكرته الثقافية. ومع الوقت، بدأ الإخوان بتفكيك هذا الوجدان عبر الإعلام، والمناهج، والسياسات الاجتماعية، وهو ما سنراه تفصيلاً في الحلقة الثانية.

خاتمة الحلقة:

إن الأغنية السودانية الوطنية ليست فقط صوتًا جميلاً من الماضي، بل كانت مشروعًا وجدانيًا لإنقاذ وطن متعدد. لكنها كانت وحدها تقريبًا في مواجهة مشروع الإخوان الذي أراد اختزال السودان في جماعة، وتقسيمه إلى دوائر متنازعة تحت لافتة “إعادة صياغة المجتمع”.

الحلقة القادمة تناول؛

“سياسات تمزيق الوجدان: كيف غيّر الإخوان خريطة الانتماء من سودان جامع إلى جماعة مغلقة؟”

وسنتناول فيها سياسة “التمزيق الناعم” عبر العرق والدين والجهة، وآليات “العزل الاجتماعي” داخل التنظيم، ودور وزارة الرعاية كوزارة لإعادة صياغة المجتمع، حيث لعبت ودورها الكارثي في محو الوجدان الوطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!