رأي

“من الجغرافيا إلى الجيوبوليتيك: جبل عوينات وانكسار الدولة المركزية”

عادل تاج الدين جار النبي

في أقصى زوايا السودان الغربية، عند النقطة التي تتقاطع فيها حدود السودان مع مصر وليبيا، تقع منطقة جبل عوينات، وهي أرض وعرة صعبة المسالك، كانت حتى وقت قريب هامشًا جغرافيًا لا يكترث به المركز. اليوم، لم تعد هذه الرقعة النائية غائبة عن المشهد، فقد تحولت إلى عنوان بارز في معادلة النفوذ، بعد أن بسطت قوات الدعم السريع سيطرتها عليها، في خطوة لم تكن معزولة عن المشهد العسكري فحسب، بل مفصلًا سياسيًا يمس جوهر الدولة السودانية.

هذا التمدد لم يكن عشوائيًا أو مفاجئًا. جبل عوينات يحمل قيمة استراتيجية عالية، ليس فقط لطبيعته الجغرافية التي تمنح من يسيطر عليه حماية طبيعية يصعب اختراقها، بل أيضًا لموقعه الحرج في مثلث حدودي يتيح التحكم في ثلاث واجهات: ليبيا، حيث فراغ أمني وموارد مهربة، مصر، التي تعتبر جنوبها أمنًا قوميًا، والسودان، الذي تتآكل فيه السلطة المركزية. السيطرة عليه تمنح الدعم السريع أذرعًا إقليمية، وقوة مناورة ميدانية، وشبكة تمدد عبر الحدود، لا تملكها حتى الدولة الرسمية.

لكن الأثر الأعمق لم يكن في الجغرافيا فحسب، بل في السياسة. هذا التمدد أعاد توزيع توازن القوى داخل السودان، ووجه ضربة معنوية واستراتيجية للطغمة الحاكمة في بورتسودان، التي تحولت فعليًا إلى سلطة رمزية تحكم من مساحة ضيقة على الساحل، دون قدرة على حماية الحدود أو ضبط الموارد. كل منطقة تخرج من يد الحكومة، تقابلها خسارة جديدة، ليس فقط في الأرض، بل في الشرعية والتأثير.

بورتسودان، التي تتقمص دور العاصمة البديلة، باتت تشبه “حكومة منفى داخل الوطن”، تعيش في عزلة سياسية، وتصدر البيانات أكثر مما تصدر القرارات الفاعلة. مقابل هذا الجمود، يتحرك الدعم السريع بمرونة ميدانية، يبني خطوط إمداده، ويعقد تحالفاته عبر الصحراء، مما يزيد من مساحة المناورات السياسية و القتالية.

ما جرى في جبل عوينات يعكس صورة أشمل لانزلاق السودان إلى واقع جغرافي جديد، تُرسم حدوده لا بالقوانين والدساتير، بل بالقوة والسيطرة. الدولة التي لا تستطيع حماية حدودها، ولا تفرض سلطتها على مواردها، ولا تقرر من يعبُرها ومن يَنهبها، تصبح مجرد اسم على خريطة. وهذا ما يجري الآن، حيث تتوسع رقعة السيطرة المسلحة وتضيق مساحة الدولة.

المفارقة أن هذا التحول الميداني يجري في وقت تنشغل فيه سلطة بورتسودان بتدوير البيانات السياسية، وإطلاق إشارات الاستغاثة إلى العواصم الإقليمية والدولية. لكن الزمن الميداني لا ينتظر، والخريطة تعاد كتابتها بسرعة على يد من يتحرك، لا من يراقب. المدن تسقط واحدة تلو الأخرى، الطرق القومية تنقطع، والمعابر الحدودية تنتقل تباعًا إلى قبضة قوى الأمر الواقع، بينما المركز الرسمي يتآكل تحت وطأة الوهم.

السيطرة على جبل عوينات ليست مجرد تقدم عسكري، بل لحظة كاشفة لحقيقة ما يجري في السودان. إنها تؤكد أن الدولة كما نعرفها لم تعد موجودة إلا في الخطاب، وأن الجغرافيا السياسية أُعيد تشكيلها من الأطراف، لا من المركز. كلما اتسعت هذه الهوامش، تقلص مفهوم السيادة، وارتسمت حدود جديدة لواقع سياسي مختلف، تُديره القوة لا القانون، والمصلحة لا الدولة.

إن ما نشهده هو انكشاف كامل لمنظومة الحكم في بورتسودان، وهزيمة لمفهوم السلطة المركزية. جبل عوينات لم يغير فقط خرائط الميدان، بل عرّى خرافة السيادة التي يلوّح بها المركز دون أن يملك أدواتها. وما لم يُعد النظر في بنية الدولة نفسها، ويُحسم سؤال من يملك الأرض فعلًا، سيبقى السودان ساحة مفتوحة لقوى ترسم حدودها تحت أنظار سلطة بلا نفوذ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!