
لم يعد الحديث عن الجاهزية الميدانية كافيًا.
فالميدان، على أهميته، ليس هو الدولة. والدولة لا تُبنى بالبندقية وحدها، بل بعقلٍ مؤسسي، ورؤية مدنية، وآليات حكم تُعبّر عن مصالح الناس لا عن تمركز القوة.
قوات الدعم السريع، وهي طرف أساسي في هذه المعركة الكبرى ضد الاستبداد القديم، لم تُحسن حتى الآن الانتقال من الميدان إلى مؤسسة الدولة.
مرّت شهور طويلة منذ أن أصبح الفراغ السياسي ماثلاً، ولا تزال البلاد بلا حكومة، بلا إعلان تأسيسي، بلا ملامح واضحة لمشروع وطني مدني جامع.
التحالفات التي بُنيت على عجل، بقيت ضعيفة، مترددة، متناقضة في خطابها ومواقفها.
الآلة الإعلامية مرتبكة، والخطاب التعبوي متضارب، لا يحمل سردية موحّدة، ولا يوجّه رسائل استراتيجية للداخل أو الخارج.
كل ذلك يشير إلى غياب بنية مؤسسية حقيقية، ويُقلل من ثقة الناس في قدرة هذا الطرف على إدارة مرحلة انتقالية تُؤسّس لسودان ديمقراطي.
صحيح أن الدعم السريع قد أحرز تقدمًا في عدة جبهات عسكرية، لكن ما لا يجب إغفاله هو أنه أحرز أيضًا نقاطًا في الميدان السياسي الدولي.
فقد تحدثت تقارير شبكة CNN عن إعلان قوات الدعم السريع التزامها بمحاربة الاتجار بالبشر في مثلث السودان-ليبيا-تشاد، وهو إعلان أحدث صدى دوليًا ووجد قبولًا لدى دوائر غربية قلقة من التهديدات العابرة للحدود.
هذا التصريح لم يكن مجرد موقف إعلامي، بل خطوة استراتيجية لفتت أنظار المجتمع الدولي، وأظهرت قدرة على مخاطبة مصالح الخارج لا تقل أهمية عن الحسم في الداخل.
وإذا كان الإسلاميون – رغم كل جرائمهم – قد عرفوا كيف يُديرون الدولة عبر شبكة تحالفات واسعة وأجهزة راسخة ودهاء سياسي مقيت،
فإن قوات الدعم السريع التي عاصرت تجربتهم، وكان بمقدورها أن تتجاوزها نحو بناء مشروع مدني، لم تنجح في ذلك حتى الآن، رغم امتلاكها للسند الشعبي، والتمدد الجغرافي، والوعي بتناقضات الخصم.
لكن الفرص لا تُنتظر إلى ما لا نهاية.
ومشروعية القتال لا تعني مشروعية الحكم.
كما أن الصمت عن غياب الرؤية يُعد خيانة لمبادئ الحرية والعدالة التي انتفض من أجلها الشعب.
وهنا، لا بد من التذكير أن قوى الثورة – رغم القمع، والتشريد، وتغييب الصوت المدني – ما تزال صابرة، تنتظر لحظة الشروع الحقيقي في مشروع بناء الدولة.
جاهزية الحسم التي تحققت في ميادين المعركة، يجب أن تقابلها سرعة مماثلة في صياغة العقد المدني، في إعادة تعريف السلطة، وفي إشراك قوى الثورة في رسم معالم السودان الجديد.
وفي هذا السياق، أحسن د. الوليد آدم مادبو التعبير حين قال: “لن أناقش مشكلة الشرق في السودان، بل مشكلة السودان في الشرق.”
ذلك أن قضايا التهميش، إن قُرئت من منظور جزئي، ستظل حبيسة الحلول الموضعية. أما إذا وُضعت في إطار الأزمة الوطنية الشاملة، فإنها تفتح الباب لتصور أكثر عدالة، يتجاوز المقاربات الأمنية الضيقة نحو بناء دولة تقوم على المساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ولذا فإن الواجب يقتضي القول الواضح:
إن لم تكن هناك رؤية سياسية متكاملة، وخطاب إعلامي موحّد، ومؤسسات مدنية تُدار بكفاءة، فإن ما تبقى هو مجرد فراغ آخر، لا يختلف كثيرًا عمّا سبق.
وإن أفضل ما يمكن فعله – في هذه اللحظة التاريخية الحرجة – ليس التمادي في الإنكار أو المكابرة،
بل الدعوة إلى طاولة مفاوضات وطنية شاملة، يجلس حولها الجميع، بمختلف مستوياتهم، من قادوا الميدان ومن ناضلوا بالكلمة، ومن خُذلوا ومن صمدوا،
للإجابة على سؤال واحد: كيف نبني دولة؟
الديمقراطية ليست مِنَّة، بل التزام.
والعيش الكريم ليس وعدًا غامضًا، بل استحقاق واجب الدفع.
ومن حمل السلاح نيابة عن الشعب، عليه أن يكون بمستوى أحلامه، لا مجرد بديل أقل سوءًا من الذين سبقوه.
manal002002@gmail.com