رأي

 اكثر من اربعة مليار لإطلاق سراح صديق خليل؛ حكايات من دفاتر البراءون

 الدكتورة فاطمة الزين الغالي

كان الصباح هادئًا في بيت الحاجة سعاد، لكن قلبها لم يعرف السكون منذ ثلاثة أشهر. كانت تقف في مطبخها الصغير، تجهز الإفطار لأطفالها الثلاثة، بينما عقلها غارق في دوامة القلق. زوجها، عم صديق، اختفى منذ اعتقاله في مدينة ود مدني، ولم يصلها عنه أي خبر. كل ليلة كانت تواسي أطفالها بعبارات مطمئنة كاذبة، وكل نهار كانت تنتظر معجزة تعيد لها زوجها.

رنَّ الهاتف فجأة، قاطعًا شرودها. نظرت إلى الرقم، لم تتعرف عليه. مسحت يديها المرتعشتين على ثوبها، ثم أجابت بصوت متردد:

  • “السلام عليكم، أختنا سعاد، أخباركم؟”
  • “وعليكم السلام، الله يسلمك، منو معاي؟”
  • “أنا الصول عمر الشيخ من الاستخبارات العسكرية مدني.”

تجمدت في مكانها، وكأن الزمن توقف للحظة. منذ اختفاء زوجها، كانت تخشى هذا النوع من المكالمات، فإما أن تحمل لها كارثة، أو كارثة أكبر.

  • “إن شاء الله خير يا أخوي؟” سألته بصوت مختنق.
  • “خير، اطمأني. عندي خبر عن عم صديق. موجود وهو بخير.”

ارتجفت ركبتاها، وكادت تسقط الهاتف من يدها. زوجها حي! أرادت أن تسأله عن مكانه، عن حاله، عن كل شيء، لكن الرجل واصل حديثه قبل أن تنطق:

  • “بس يا حاجة، في موضوع لازم تعرفيه. عم صديق ثبت أنه متعاون مع المليشيا.”

شهقت سعاد، وكأن أحدهم سدد طعنة إلى قلبها.

  • “كضب! عم صديق ما عنده علاقة بأي زول!”
  • “أنا عارف، لكن دي شغلتنا، وما بنعتقل زول ساكت.”

كان صوته بارداً، لا يحمل أي تعاطف. لم يمنحها فرصة للرد، بل تابع بصوت خافت كأنه يهمس:

  • “لكن اسمعي، أنا عندي محاولة أطلعي ليكم.”

تشبثت بكلماته وكأنها طوق نجاة.

  • “بارك الله فيك يا ولدي، الله يفرّجها عليك.”
  • “لكن يا حاجة، الناس ديل صعبين، وعاوزين قروش.”

تراجعت خطوة إلى الوراء، شعرت بأن قدميها لم تعد تحملانها.

  • “قروش؟! كم يا ولدي؟ نحن ناس غبش، ما عندنا حاجة.”
  • “لا لا، ما كتيرة. حوالي ٣ مليار فقط.”

سقط الهاتف من يدها، وتشبثت بطرف الطاولة لتمنع نفسها من السقوط. ٣ مليار؟! من أين لها بهذا المبلغ؟

رفعت الهاتف مجددًا وصوتها يخرج بصعوبة: “٣ مليار؟! والله يا ولدي نحنا ناس على باب الله، من وين نجيبها؟”

  • “حاولي دبّري جزء منها، وبعد داك نشوف.”

ثم أغلق الهاتف، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلًا، وحالة من الرعب تسللت إلى قلب سعاد.

لم تنم تلك الليلة. جلست قرب أطفالها وهم نائمون، تنظر إلى وجوههم البريئة، وتتساءل: هل ستتمكن من إنقاذ والدهم؟ في اليوم التالي، بدأت رحلة طويلة من الاستدانة، طرقت أبواب الأقارب والجيران، باعت ذهبها القليل، واستدانت بفوائد قاسية.

لكن هاتفها لم يتوقف عن الرنين. في كل مرة كانت تجمع جزءًا من المبلغ، يأتيها صوت جديد بمطلب جديد. لم يكن الصول عمر وحده، ظهر المساعد جلال، ثم النقيب فايز، كل واحد يزايد، كل واحد يرفع السعر، وكأنها في مزاد قاسٍ على حياة زوجها. المبلغ تضخم حتى وصل ٤.٢ مليار، وكأنهم كانوا يعلمون أنها ستفعل المستحيل لجمعه.

وأخيرًا، بعد ليالٍ طويلة من العذاب، جاءتها المكالمة الحاسمة:

  • “يا حاجة، جهزتي القروش؟”
  • “جهزتها.”

صوتها كان ضعيفًا، لكنها كانت مصممة. حددوا لها مكان اللقاء، في شارع مهجور على أطراف المدينة.

ذهبت هناك وحدها، تحمل حقيبة المال كما طلبوا. كان المكان مظلمًا، والشارع يكاد يخلو من الحياة. وقفت تنتظر، حتى ظهر رجل طويل، وجهه مخفي في الظلام.

  • “القروش جاهزة؟”
  • “جاهزة.”

أخذ الحقيبة، فتحها وألقى نظرة سريعة على الأوراق النقدية. أومأ برأسه وقال ببرود:

  • “انتظري خبر في اليومين الجايات.”

ثم استدار واختفى في العتمة.

مر يومان، لم يغمض لها جفن. ثم، فجر اليوم الثالث، سُمع طرق خفيف على الباب. هرعت إليه وهي تلهث، فتحته لتجد رجلين يحملان جسدًا ضعيفًا.

كان عم صديق.

لكن لم يكن الرجل الذي تعرفه. كان مجرد ظل لإنسان، جسده هزيل، جلده يلتصق بعظامه، عيناه غائرتان، وكأنه خرج لتوه من القبر. حاول الابتسام، لكن شفتاه لم تتحركا. لم يستطع المشي وحده، جلس بصمت، يحدق في أطفاله الذين احتضنوه وهم يبكون.

في الأيام التالية، لم يتحسن حاله، ظل صامتًا، يبتسم لأطفاله، لكن الألم كان واضحًا في عينيه. لم يخبرهم بما حدث له هناك، لكن جسده كان يحكي كل شيء.

وبعد أسبوعين فقط، استيقظت سعاد على صمت غريب. التفتت إليه، فوجدته مستلقيًا بلا حراك، عيناه مفتوحتان بلا حياة. لقد فارق الحياة.

صرخت سعاد، ركض الأطفال نحوه يهزون جسده النحيل، لكنه لم يتحرك.

في ذلك اليوم، لم تفقد سعاد زوجها فقط، بل فقدت كل شيء… المال، الأمل، والثقة في هذا العالم القاسي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!