
لم يكد يمر يوم خلال الفترة الماضية إلا واهتزت أرض نيالا تحت أزيز الطائرات وقذائفها الحارقة. أكثر من عشرات المرات، تعرضت المدينة للقصف العشوائي الذي لم يفرق بين بيت ومسجد، سوق أو مستشفى، شيخ أو طفل. وفي كل مرة، كان الضحايا هم الأبرياء، والأمهات اللواتي ودعن أبناءهن إلى مثواهم الأخير. لكن هل يظن البرهان وزمرته أن هذه اللعنات ستذهب سدى؟ هيهات، فدموع الأمهات التي سالت في نيالا ستظل وصمة عار تطارد هذه العصابة إلى الأبد، وستظل أناتها جرحًا في ضمير كل من شاهد المأساة ولم يحرك ساكنًا.
هذا القصف الوحشي ليس مجرد عمل عسكري في صراع على السلطة، بل هو استهداف ممنهج يتجاوز الحسابات السياسية إلى ما هو أعمق وأخطر: محاولة إذلال سكان نيالا وكسر إرادتهم بالقوة. القصف المتكرر الذي يطال الأحياء السكنية والأسواق، والمساجد والمستشفيات، يكشف عن نية خبيثة لإبادة المدينة ببطء، لتركيعها ودفع سكانها إلى الاستسلام. هذا القتل الجماعي، الذي يتم بناءً على تصنيفات جائرة واتهامات جاهزة، يعكس عقلية استبدادية ترى في معاقبة الأبرياء وسيلة لتحقيق النصر. يظن البرهان أن أهل نيالا بيئة حاضنة للدعم السريع، وكأن الولاء السياسي مبررٌ لقتل المدنيين! هذه النظرة العنصرية التي يشن بها حربه القذرة لن تزيد المدينة إلا صلابةً، ولن تجعلها تركع، مهما حاول أن يفرض عليها الهزيمة بالقوة الغاشمة.
ما يجري في نيالا يتجاوز كونه معركة عسكرية، إنه عملية إبادة منظمة تهدف إلى إفراغ المدينة من سكانها بالقهر والتجويع والقصف العشوائي. نظام البرهان، الذي عجز عن فرض سيطرته على الأرض، لجأ إلى سياسة الأرض المحروقة، متوهمًا أن تدمير المنازل وقتل المدنيين سيدفع الناس إلى الهرب وترك مدينتهم خاوية. لم يتردد في استهداف الأسواق لقطع أرزاق الناس، ولا في قصف المستشفيات لمنعهم من تلقي العلاج، وكأنه لا يكتفي بالقتل المباشر، بل يريد أن يجعل الحياة نفسها مستحيلة داخل المدينة. لكنه واهم، فالتاريخ يشهد أن المدن التي قاومت الاحتلال والاستبداد لم تسقط بالقنابل، بل زادتها المحن صلابةً، وأهلها تمسكًا بها أكثر.
من يظن أن أهل نيالا سيهربون أو يستسلمون فقد أساء تقدير معدن هذه المدينة وأهلها. لقد واجهوا الأزمات من قبل، وعرفوا كيف يصمدون أمام المحن. القصف العشوائي لن يجعلهم يرفعون الراية البيضاء، بل سيزيدهم تمسكًا بأرضهم وكرامتهم. قد يدمر الطيران البيوت، لكنه لن يكسر إرادة أهلها. قد تشتد الظروف، لكن المدينة لن تسقط تحت جبروت الظلم. وما دام هناك قلب ينبض في نيالا، فستبقى هذه الأرض عصية على الخضوع.
لا شيء أقوى من دعاء أم ثكلى، ولا شيء أكثر لعنة من دموعها. فالأمهات اللواتي وقفن على أطلال بيوتهن المدمرة، واللواتي ودعن أبناءهن شهداء تحت الركام، لن ينسين ولن يغفرن. ومن ظن أن التاريخ سيمرر هذه الجرائم دون حساب، فهو واهم. الأيام دول، ومن يملك الطائرات اليوم، قد يجد نفسه مطاردًا غدًا، ليس فقط في ساحات المحاكم، بل في ضمير الأمة والتاريخ. وإن كانت عصابة البرهان تظن أن بإمكانها الإفلات من العقاب، فعليها أن تستعد للعنة الأمهات التي ستظل تطاردها أينما ذهبت، حتى ينال كل مجرم جزاءه.