
الرد على تبرير استخدام القوانين الدينية في ولاية غرب كردفان
نُشر مقال للأستاذ عاطف نواي بعنوان “هل محاربة الظواهر السلبية طعن في حكومة التأسيس؟”، يدافع فيه عن حملة قادتها سلطات ولاية غرب كردفان، من الدعم السريع بمشاركة عناصر من قوات الشرطة والمباحث، لمداهمة أماكن تُصنّفها السلطات المحلية كمواقع لترويج الخمر والمخدرات. المقال يسعى إلى تبرير هذا الفعل من منطلق ثقافي وأمني وفيدرالي، ويعتبره ممارسة مشروعة ضمن سلطات حكومة الولاية، بل ويعرضه كجزء من مهام حكومة التأسيس!
ردي هذا لا ينطلق من الدفاع عن الخمر أو المخدرات، بل من التمسك الصارم بمبدأ دستوري فوق تفاوضي: العلمانية بوصفها شرطاً لازماً للمواطنة المتساوية، ومنع التمييز، وضمان ألا تُستخدم الدولة كأداة لفرض رؤية دينية أو أخلاقية جزئية على المجتمع. وعلى هذا الأساس، فإن الحملة المشار إليها، إذا كانت تستند إلى قوانين دينية أو تستبطن خطاباً دينياً تمييزياً أو عقابياً ضد أنماط ثقافية مختلفة، فإنها تُعد خرقاً واضحاً لمبادئ ميثاق تحالف تأسيس، ولأحكام الدستور الانتقالي، وللفقه الدستوري المقارن حول الحياد الديني للدولة.
أولاً: العلمانية في ميثاق تحالف تأسيس والدستور الانتقالي:
– ميثاق تحالف تأسيس، الموقّع من الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال وقوات الدعم السريع ومكونات مدنية ومسلحة أخرى، ينص صراحة على:
“بناء دولة مدنية ديمقراطية تقوم على فصل الدين عن مؤسسات الدولة، لضمان حيادها تجاه جميع الأديان والثقافات”
– الدستور الانتقالي للسودان (2025)، الصادر بموجب الاتفاق السياسي التأسيسي، يتضمن في مادته الأولى:
“السودان دولة علمانية، لا دين رسمي لها، وتلتزم بحماية حرية الدين والمعتقد وسائر الحقوق المدنية دون تمييز”
وبالتالي، فإن أي تصرف صادر من سلطات إدارية أو قوى نظامية تُشارك في حكومة التأسيس، يخضع للمبادئ فوق الدستورية الموقّع عليها، ولا يجوز بأي حال تبريره بمرجعيات دينية أو ثقافية أحادية.
ثانياً: الفيدرالية لا تبيح انتهاك المبادئ فوق الدستورية:
يُخطئ الأستاذ عاطف نواي حين يستند إلى مفهوم الفيدرالية لتبرير فرض قوانين ذات طابع ديني أو تمييزي داخل الولاية. فحتى في الأنظمة الفيدرالية الراسخة كالهند والولايات المتحدة:
– تُقيد سلطة الولايات بما يُعرف بـ الحقوق غير القابلة للانتهاك
(non-derogable rights)
ومنها حرية الدين والمعتقد والمساواة أمام القانون
ـ في قضية
Kesavananda Bharati v. State of Kerala
(الهند، 1973)،
أقرت المحكمة العليا بأن المبادئ الأساسية للدستور لا يمكن تعديلها من أي ولاية أو سلطة تشريعية.
– وفي الولايات المتحدة، حظرت المحكمة العليا في
Loving v. Virginia (1967)
قوانين الولايات التي تمس المساواة، حتى إن كانت مبررة ثقافياً أو دينياً.
بالتالي، لا تملك أي ولاية في السودان
حتي تحت الفيدرالية – سلطة تبني تشريعات أو سياسات تستند إلى عقوبات دينية، أو تفرض هوية دينية على السلوك العام، وليكن هذا مفهوما للجميع.
ثالثاً: القلق المشروع من سلوك عناصر الدعم السريع:
إن ما تم تداوله من مقاطع مصوّرة، ومشاركة عناصر من أجهزة السلطة المسلحة في حملات تحوي خطاباً دينياً أو تستخدم العقاب الأخلاقي باسم “الظواهر السلبية”، يثير قلقاً واسعاً ومشروعاً داخل قواعد الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وبين جماهير المناطق التي تناضل منذ عقود ضد الدولة الدينية المركزية.
وعليه، فإن أي محاولة من عناصر منسوبة للدعم السريع لتمرير أجندات عقابية تستبطن قيم السودان القديم (فرض الأخلاق الدينية، قمع السلوك الشخصي، معاقبة الأفراد على أسلوب حياتهم)، تُعدّ خرقاً مباشراً للميثاق السياسي الذي وقّعته تلك القوات، وتُقابل بالشجب والإدانة من قبل قواعد شركائها في التحالف، فهي تمسهم وتمس أهلهم والقضايا التي يناضلوا لاجلها.
المواطنة لا تُقاس بمقدار التزام الفرد بقيم الأغلبية، بل بحقه في الاختلاف.
وحكومة التأسيس لن تُبنى على إقصاء الهامش مرة أخرى، ولكن على الاعتراف الكامل بتنوعه الثقافي، والحق في الوجود دون وصاية أخلاقية أو دينية.
رابعاً: التفريق بين الجريمة والسياسة الأخلاقية:
– محاربة الجريمة هي مهمة مشروعة للدولة، ولكن يجب أن تستند إلى قوانين علمانية، حقوقية، تقوم على الإثبات القانوني وليس على الملاحقة الأخلاقية.
– مكافحة المخدرات مشروعة، لكن استخدام نصوص من الشريعة الإسلامية أو تبريرات دينية لتجريم الخمر هو تجاوز دستوري مرفوض.
– القانون الانتقالي لا يجرّم الخمر كممارسة دينية، بل يحظر فقط المتاجرة غير القانونية بالممنوعات وفق إجراءات قانونية دقيقة، لا وفق محاكمات أخلاقية أو نداءات للفضيلة.
خامساً: دعوة إلى الالتزام والانضباط الدستوري:
كمؤيدي وجماهير السودان الجديد، ندعو جميع مكونات حكومة التأسيس، وعلى رأسها قوات الدعم السريع، إلى الوفاء الصارم بالتزاماتها الموقّعة في ميثاق تأسيس والدستور الانتقالي. ونُطالب بوقف أي سلوك أو خطاب يروّج لعودة القوانين الدينية أو يُشرعن فرض نمط ثقافي معين على السكان.
العدالة لا تبدأ بمحاربة الخمر، بل بإرساء حق الناس في أن يعيشوا أحراراً في ظل قانون علماني عادل لا يُعاقبهم على هويتهم.
أخيرا:
إن مشروع السودان الجديد، الذي ناضلت من أجله الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، واحتشدت خلفه جماهير الهامش والقوى الديمقراطية، والذي تواثقت عليه المكونات الموقّعة على ميثاق تأسيس، يقوم على مرتكزات لا تقبل التنازل أو المساومة، وفي طليعتها مبدأ الفصل التام بين الدين والدولة.
هذا المبدأ ليس خياراً سياسياً مرناً أو مسألة إدارية قابلة لإعادة التأويل، بل هو ركن تأسيسي فوق دستوري، يُشكّل الشرط الضروري لأي عملية انتقال حقيقي نحو دولة المواطنة المتساوية، والعدالة التاريخية، والديمقراطية الشاملة.
وعليه، فإن أي محاولة للالتفاف على هذا المبدأ – سواء عبر خطاب ديني مقنّع، أو تسويغ فقهوي باسم “الفيدرالية”، أو فرض سلوكيات أخلاقية باستخدام أدوات الدولة القسرية – تُعد انتهاكاً مباشراً للعهد السياسي والأخلاقي الذي قامت عليه حكومة التأسيس.
وسوف تجد هذه المحاولات، كما في كل مرة، مواجهة صلبة من قِبل القوى الواعية والحية داخل تحالف التأسيس، التي تدرك أن لا بناء مستقبلي ممكناً دون قطيعة كاملة مع أنماط الاستبداد الديني وسلوكيات الدولة القديمة.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)