
وصلني، كما وصل إلى عدد من المتابعين، بيان منسوب إلى الرائد شيراز خالد محمد الأمين، من قوات الدعم السريع – قطاع غرب كردفان، يتناول حيثيات الحملة التي استهدفت ما وُصف بأنه “ظواهر سالبة”، وشمل ذلك إتلاف كميات من المشروبات البلدية، استناداً إلى شكاوى قيل إنها وردت من بعض المواطنين وتم تدوير الحملة في الوسائط.
ورغم أنني لا أملك تأكيداً قاطعاً لصحة نسبة البيان إلى الرائد المذكورة، فإن نبرة الخطاب – التي مالت إلى شيء من التوضيح والاعتذار – تستحق التوقف عندها، لا للرد الشخصي، بل للنقاش العام من موقع المسؤولية، خدمةً للحوار الوطني وترسيخاً لمبدأ الدولة المدنية المتعددة الثقافات وهي جوهر مشروع تأسيس وحكومة الوحدة والسلام القادمة.
في البيان، تُبدي الرائد شيراز حرصاً على “أمن المجتمع”، وتقرّ بأن الحملة جاءت بدافع “الغيرة” و”الحماس”، وتُبدي أسفاً ضمنياً على أسلوب التنفيذ، مع وعد بالالتزام مستقبلاً بما يصدر عن لجنة أمن الولاية. وهذه لهجة جديدة في الخطاب النظامي تستحق التقدير والاشادة، إذ أن القدرة على مراجعة الذات والانتقال من التهديد إلى التفاهم، سلوك نادر يُشكر عليه من يبادر به
غير أن العفو عن النوايا لا يعفي من نقد المبادئ حين تُمس. فالقضية هنا لا تتعلق بممارسة فردية معزولة، بل بمبدأ عام: كيف تُدار السلطة؟ وبأي مرجعية؟ وحين تمسّ الإجراءات الأمنيّة عادات ثقافية عميقة الجذور، وتُتّخذ دون تفويض دستوري و قانوني أو احترام للتعدد الاجتماعي، فإن الرد لا يكون وجدانياً فقط، بل مؤسساً على ما يلي:
أولاً: السودان دولة مدنية لا مركزية تُدار بالدستور لا بالأخلاق السلطوية:
ينص الدستور الانتقالي لعام 2025 طبیعة الدولة
- )1
( السودان دولة علمانية ديمقراطية لا مركزیة، ذات ھویة سودانویة، تقوم على:
أ. ( فصل الدین عن الدولة. )
ب. ( فصل الھویات الثقافیة والعرقیة والجھویة عن الدولة. )
ج. ( المواطنة المتساویة كأساس للحقوق والواجبات.)
دولة تقوم على فصل السلطات، وتحظر فرض أي رؤية دينية أو ثقافية على الأفراد أو الجماعات. الدولة علمانية، تحمي حرية المعتقد والتعدد الثقافي، وتخضع جميع السلطات، بما فيها الولائية والنظامية، للدستور، دون أن تملك سلطة التشريع أو القضاء.
ويؤكد الدستور كذلك احترام الأعراف والتقاليد المحلية، ما لم تتعارض مع الحقوق الأساسية، ويمنع تجريم أي ممارسة ثقافية دون سند قانوني.
في هذا الإطار، فإن ممارسات مثل إعداد “المريسة” أو “الشربوت” وما اليه هي جزء من ثقافة مجتمعات سودانية راسخة، ولا يجوز نزع مشروعيتها تحت ذرائع أخلاقية أو مركزية ثقافية. من يصِفها بـ”الدخيلة” خارج سياقها التاريخي والاجتماعي، إنما يعتدي على التنوع، ويقوّض حق المجتمعات في التعبير عن ذاتها.
كما أن الشكاوى الفردية، مهما بلغ عددها، لا تُبرر انتهاك الخصوصية أو مداهمة المنازل. فالدولة القانونية لا تُدار بانفعالات أو حملات أخلاقية، بل بمؤسسات العدالة. التذرع بالغيرة الأخلاقية لخرق القانون يفتح الباب للفوضى، ويُبرر التعدي على ممارسات مشروعة، تماماً كما لو اعترض أحدهم على شرب لبن الإبل!
ويؤكد ميثاق تأسيس السودان الجديد (نيروبي، 2025) أن الاعتراف بالتعدد الثقافي ليس ترفًا سياسيًا، بل أساس في بناء الدولة، ويُلزم مؤسساتها بالامتناع عن أي إقصاء ثقافي، حتى لو غُلّف بخطاب الدين أو الحماية الأخلاقية. الهوية الثقافية ليست خيارًا، بل أحد أركان الشرعية التأسيسية للدولة.
من هنا، فإن أي سلطة أمنية أو إدارية تتجاوز هذا الإطار، تتعدى على مبدأ السيادة ذاته، الذي أقر الدستور أنه بيد الشعب لا الأجهزة.
أما ما ورد في البيان من أن الحملة جاءت استجابة لـ”ممارسات دخيلة ومزعجة”، فهو طرح إشكالي، إذ لا يجوز في دولة تعددية أن يُحدد “الأصيل” و”الدخيل” بناءً على الانطباعات أو الأغلبية الظرفية، بل عبر معرفة اجتماعية- تاريخية دقيقة، تحترم السياقات وتُميّز بين ما هو طارئ وما هو متجذر.
فالذي يُنظر إليه كـ”مشروب غير لائق” في بعض البيئات، قد يُعد في مناطق مثل دارفور، جبال النوبة، أو النيل الأزرق جزءاً من الحياة اليومية، والإنتاج الغذائي، والعمل الجماعي. ووصفه بالدخيل دون فهم سياقه، يعكس ذهنية سلطوية تُعيد إنتاج مركزية ثقافية متعالية، لا تستند إلى دستور أو تفويض شعبي.
الخلاصة:
في الدولة المدنية، لا يحق لأي جهة أن تتصرف كوصيّ على الأخلاق أو الثقافة. المرجعية هي القانون، والتاريخ، والسياق، لا الهوى ولا المركز. الثقافة لا تُقاس بالمزاج، بل تُصان بالمعرفة والاحترام والحق الدستوري.
ثانياً: الدولة تُدار بالقانون لا بالغيرة:
القول إن الحملة جاءت بدافع “الغيرة على المجتمع” قد يُفهَم كنية حسنة في المستوى الشخصي، لكنه لا يُعدّ مبررًا مشروعًا في دولة قانون. فالدولة الحديثة لا تقوم على الانفعال أو المشاعر الأخلاقية المجردة، بل على مرجعية قانونية واضحة تحكم تصرفات جميع الأجهزة، سواء كانت مدنية أو عسكرية.
لا يجوز لأي جهة تنفيذية أن تتحرك دون سند قانوني، أو أن تداهم منازل وتُتلف ممتلكات بذريعة حماية “الأخلاق العامة”، ما لم يكن ذلك بناءً على قوانين مصادق عليها، وبإجراءات قضائية مشروعة. إن مثل هذه التصرفات تمثل انتهاكًا لسيادة القانون، واعتداءً على الحقوق الأساسية مثل الخصوصية، وحرية المعيشة، خاصة إذا كانت الممارسات موضوع الاستهداف جزءًا من ثقافة لا يُجرّمها القانون.
ويؤكد الدستور الانتقالي لعام 2025 في مبادئه العامة أن:
“الدولة علمانية، تضمن حرية الدين والمعتقد، وتحمي التنوع الثقافي، وتمنع فرض أي رؤية دينية أو ثقافية على الآخرين.”
كما ينص أيضًا على أن:
“الدولة تحترم الأعراف والتقاليد ما لم تتعارض مع الحقوق الأساسية، ولا تُجرّم الممارسات الثقافية المحلية دون سند قانوني.”
أما ميثاق تأسيس السودان الجديد (نيروبي، 2025) فقد أكد بوضوح أن:
الاعتراف بالمكونات الثقافية بوصفها ركيزة في بناء الهوية الوطنية، يقتضي الامتناع عن الممارسات الإقصائية أو التطهيرية، حتى وإن ادّعت الغيرة، أو اتخذت من الدين أو الأخلاق ستارًا.””
الخلاصة:
في دولة القانون، لا يُعفى أحد من الالتزام الدستوري بحجة الغَيرة أو النية الطيبة. المرجعية الوحيدة لأي إجراء رسمي هي القانون، لا المزاج، ولا الأخلاق الفردية، ولا الهيمنة الثقافية.
ثالثاً: منطق الفدرالية وحدود سلطة الولاية:
في أي نظام دستوري فدرالي، تُوزّع السلطات وفق مبدأ الاختصاص بين مستويات الحكم المختلفة (الاتحادي، الولائي، والمحلي)، بما يضمن عدم تغوّل أي مستوى على صلاحيات الآخر. ووفقاً لهذا المبدأ، لا يجوز لأي سلطة مركزية أو جهاز أمني قومي أن يتدخل في الشؤون اليومية والتقافية والاجتماعية داخل ولاية أو إقليم، إلا استناداً إلى تفويض قانوني صريح ومحدد، وبالتنسيق مع السلطات الولائية المختصة، ووفق ما تقرره القوانين المحلية.
إن صلاحيات ولاية غرب كردفان، كما سائر ولايات السودان، مقيدة بالدستور الانتقالي لسنة 2025 وبالمبادئ فوق الدستورية المضمنة في ميثاق التأسيس، والتي تنص على احترام التنوع الثقافي، وضمان الحريات الشخصية، وحظر فرض الرؤى الأيديولوجية أو الدينية على المواطنين.
وعليه، فإن أي إجراء تنفيذي — كاقتحام المنازل أو مصادرة الممارسات الثقافية أو إعلان محاربة “الظواهر السالبة” – لا يدخل في نطاق السلطة التقديرية للولاية إذا تعارض مع الحقوق الدستورية المكفولة أو مع المبادئ فوق الدستورية التي لا يجوز لأي مستوى حكومي انتهاكها أو الالتفاف عليها.
كما تقرر في السوابق القانونية والنصوص المقارنة، أن الاستثناءات الأمنية أو الادعاء بـ”الغيرة المجتمعية” لا تُجيز مخالفة الدستور أو تقويض الحقوق الأساسية، وهو ما أكدته دساتير الدول الفدرالية المقارنة (مثل جنوب إفريقيا، والهند، وسويسرا) ودستور تأسيس، حيث تُعد حماية التعدد والتنوع من اختصاص الدولة، لا من صلاحيات أي جهاز مسلح، خصوصاً إذا كان غير خاضع لرقابة برلمانية ومساءلة قضائية واضحة.
إن الاعتداء على الممارسات الثقافية المحلية – تحت أي مسمى – دون احترام للإجراءات القانونية والاختصاصات الإدارية، لا يعدو أن يكون فعلاً غير مشروع، يستوجب المحاسبة، لا التبرير.
رابعاً: الدولة العلمانية لا تُدار بالغيرة ولا بمنطق التحريم
رغم أن البيان لم يصرّح بموقف ديني صريح، إلا أن نبرته الأخلاقية التي تستدعي الغَيرة، وتصف بعض الممارسات بـ”الظواهر السالبة”، تنتمي إلى خطاب يتجاوز حدود القانون المدني إلى منطق الدعوة والمحاسبة الأخلاقية، ويذكر بسلوك نظام الإنقاذ ابان عمر البشير.
لكن الدولة السودانية، وفق الدستور الانتقالي وميثاق التأسيس الموقع في نيروبي، تُبنى على أسس مدنية علمانية، تقوم على فصل الدين عن الدولة، وتحمي التعدد الثقافي والديني، وتمنع فرض رؤية واحدة على الجميع. الدولة لا تصدر الأحكام بناء على الحلال والحرام، بل وفق القانون، ولا تتحرك بدافع الانزعاج الأخلاقي بل عبر مؤسساتها القضائية والتشريعية.
العلمانية لا تعني محاربة الدين، بل تعني تحرير الدولة من أن تدّعي لنفسها سلطة أخلاقية مطلقة، وتأكيد أن الفصل بين الضمير الفردي والقانون العام هو شرط أساسي للعدالة والمساواة.
أما منطق “الانزعاج”، فلا يُعتمد مرجعًا قانونيًا. أن يشتكي بعض الناس من ممارسة ثقافية لا يعني أنها مُجرَّمة. كما لا يُلغى زفافٌ لأن أحدهم ضاق بقرع الطبول، لا يجوز أن تُراق جرار المريسة لأن آخر انزعج من رائحتها.
في الدولة العادلة، تُحترم الفروقات، وتُصان الثقافات، وتُدار الخلافات بالحوار، لا بالمداهمة.
خامساً: التعليم لا القمع، هو الطريق – باولو فريري والنهوض من أنقاض “المشروع الحضاري”
بعد ثلاثين عاماً من ما يمكن وصفه بـ”المشروع الحضاري” في السودان – أي تلك المنظومة السلطوية التي حاصرت العقل، وأغلقت منافذ التفكير والحوار، وجرّمت التنوع، وشرعنت الاستبداد باسم الدين – لم يعد ممكنًا التفكير في النهوض إلا عبر مقاربة تربوية تحرّرية، كما نظّر لها المفكر البرازيلي باولو فريري.
فريري، في كتابه الشهير “تعليم المقهورين”
(Pedagogy of the Oppressed)
أوضح أن المجتمعات الخارجة من تجارب القمع لا تُبنى بالعصا، بل بالتفكير وبالحوار، ولا بالردع، بل بإشراك الجماعات المهمشة في صياغة رؤيتها الخاصة للعالم.
في ضوء هذا الفهم، حين تواجه السلطة سلوكاً محلياً ترى فيه تهديدًا صحياً أو أخلاقيًا أو اجتماعيًا، فإن أول واجباتها ليس القمع، بل التعليم، والتوعية، والاحتواء.
التدخل العسكري أو الأمني في الشأن الثقافي يُنتج مزيداً من العنف الرمزي، ويفاقم الإقصاء، ويؤسس لحالة من الانفصال بين الدولة والمجتمع.
وفقًا لأبجديات الدولة الديمقراطية المتعدّدة:
– إذا وُجد قلقٌ حقيقي من ممارسة ثقافية، فإن الجهة المختصة بالحوار هي المجالس المحلية، لا وحدات الاقتحام.
– إذا وُجد ضررٌ صحي محتمل، فإن من يقدّم الرأي والتوصية هو الخبير الصحي أو الاجتماعي، لا العسكري أو رجل الأمن.
– أما القوات النظامية، فمهمتها تنفيذ القانون لا صناعته، تطبيق النصوص لا الاجتهاد في الفتاوى، وصيانة السلم الأهلي لا إدارة الذاكرة الجمعية للمجتمعات المتنوعة.
إن فرض “نموذج أخلاقي واحد” – مستورد غالباً من مراكز الهيمنة الثقافية في الدولة – على كافة المجموعات السودانية، هو نكوص عن مشروع تأسيس الدولة المدنية، كما نصّ عليه ميثاق تأسيس السودان الجديد، والذي يرفض الإقصاء الديني والثقافي، ويدعو لبناء دولة تقوم على الاعتراف، لا الإخضاع.
باولو فريري كان واضحاً حين قال مايعني:
“القمعي لا يعترف بوجود الثقافات الأخرى لأنه يخاف منها… التعليم الحقيقي لا يلقّن، بل يحرّر.”
وما أحوجنا اليوم في السودان إلى أن نتحرر من عقلية “التلقين السلطوي”، وأن نُعيد الاعتبار لكرامة المجتمعات، عبر شراكة قائمة على الفهم، والتعلم، والإصغاء لا على الإدانة والإهانة.
فبناء الوطن لا يتم عبر إذلال أهله،
بل عبر إشراكهم في تعريفه.
أخيرا:
هذا الرد لا يُراد به التأنيب، بل يُرجى أن يكون مدخلًا للتأمل، ودعوة للحوار، لا للخصومة. ففي الدول الحديثة، لا يُفترض أن تصدر البيانات الأمنية بلغة الغيرة أو الحماس، بل بروح القانون، وبأدب الخدمة العامة، لا نبرة الوصاية.
العلمانية لا تعادي الدين، بل تحمي الأديان جميعًا من أن يُفرَض أحدها على الجميع.
والفدرالية ليست تفتيتًا، بل ضمان لاحترام التنوّع المحلي.
والثقافة لا تُقتحم بقوة السلاح، بل تُفهَم عبر الحوار.
أما المواطنة، فلا تُنتَزع بالضبطيات، بل تُبنى بالاعتراف والمساواة.
إن صدق البيان المنسوب للرائد شيراز، فإنّ فيه ما يُثمّن: نبرة الاعتراف، والتلميح إلى مراجعة الأسلوب. وهذه بداية تحسب لها، إن تَبعتها مراجعة أعمق لمفاهيم الأمن والسلطة والثقافة.
لكن في المقابل، لا يمكن السكوت على خطاب يُلبِس الغيرة ثوب القانون، أو يساوي بين التنوع الثقافي والتهديد الأمني، أو يستبدل روح الدستور بمنطق الوصاية الأخلاقية.
الدولة لا تُدار بالعاطفة، بل تُبنى بالدستور.
والثقافة لا تُصادَر بالحملات، بل تُصان بالقانون.
والاختلاف لا يُقمع، بل يُدار بالحوار.
في سوداننا الجديد، لا تُعتّق الجهالة في قدور البسطاء، بل يُخمّر الوعي في براميل الدستور، والمعرفة، والعدالة.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)